الأربعاء، 12 يوليو 2023

الكتب والنساء بين الكويت والزبير ونجد: قراءة في وقف طرفة بنت ناصر العبد الكريم

مقدمة
لا تكاد توجد مدينة أو بلد أو قرية في الجزيرة العربية تخلو من وجود بعض مظاهر العلم خلال الأربعة مئة سنة الماضية. فتعليم القرآن وبعض مبادئ الدين منتشرة في جميع أنحاء الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها، ولكن ثَمّ مراكزُ علميةٌ اشتهرت بالجزيرة العربية مثل الحجاز والأحساء والعراق وبعض مناطق اليمن وعمان ونجد كذلك منذ القرن الثاني عشر الهجري. على أهمية هذه المراكز العلمية في نشر العلم والوعي والثقافة في الجزيرة العربية والخليج إلا أن هذا المقال سيركز على ثلاث بقع جغرافية وحسب هي الزبير ونجد والكويت وتحديدا منذ القرن الثالث عشر الهجري (١٢٠٠)؛ لأن معظم سكان هذه الأماكن من أصول واحدة هي الأصول النجدية، وبينهم تشابهات كثيرة في مسائل التفكير الجمعي وكذلك طرق التعليم الشرعية، وبينهم في الوقت ذاته اختلافات وصراعات أدت إلى تطور الأفكار الشرعية وانتشارها إما عن طريق الكتب والشعر والمناظرات أو عن طريق القوة السياسية كما حدث عند قيام الدولة السعودية الأولى وبداية ظهور الدعوة السلفية/الوهابية. 
مما لا شك فيه أن للأحساء دور مهم، فهي حاضرة علمية لا يمكن تجاوزها عند الحديث عن وقف الكتب وتطور العلم ووجود العلماء. إلا أنّ هذا المقال يركز على شخصية طرفة بنت ناصر العبدالكريم ووقفها؛ لذلك لم يكن للواقفة أي علاقة في الأحساء لكنها ولدت في نجد وسكنت الزبير وتزوجت من كويتي؛ من أجل هذا آثرت في هذا المقال أن يكون التركيز على هذه المناطق/المشيخات الثلاث من باب تسليط الضوء على بعض هوامش التاريخ التي تحتاج مزيدا من البحث والعناية في تاريخ الخليج والجزيرة العربية.
ناقشتْ كثير من الكتب والمقالات الحياةَ العلميةَ في الزبير ونجد والكويت، فقد كان إسهامها كبيرا في مساعدة الباحثين على فهم وسبر أغوار هذا الموضوع، ولعل من أبرز الكتب من باب المثال لا الحصر كتاب أحمد البسام "الحياة العلمية في وسط الجزيرة العربية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين" وكذلك كتاب مي العيسى "الحياة العلمية في نجد" وهناك بحث قيّم لعبدالله العثيمين عن نجد منذ القرن العاشر حتى ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب. هناك كذلك بعض الرسائل العلمية التي كتبت في فترة الثمانينات والتسعينات بعضها ترجم للعربية وبعضها لا يزال باللغة الإنجليزية مثل رسالة عويضة الجهني عن نجد ما قبل الوهابية التي ترجمت قبل سنوات، وكذلك هناك رسالتين لهما قيمة علمية لكنها -حسب علمي- لم تترجما بعد من الإنجليزية هما رسالة عبدالله المطوع عن علماء نجد من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر الميلادي ورسالة محمد الفريح عن الخلفية التاريخية لظهور محمد بن عبدالوهاب وحركته. أما فيما يتعلق بالكويت فمن الكتب التي اهتمت بقضية الثقافة والعلماء كتاب خليفة الوقيان "الثقافة في الكويت" وكذلك كتاب عدنان الرومي "علماء الكويت وأعلامها". هذا على سبيل المثال لا الحصر. أما فيما يتعلق بالزبير فإنّ من أبرز الكتب كتاب الغملاس "الإعلام في أعيان بلد الزبير بن العوام". وهناك وجهود بُذِلتْ في الكتابة عن الزبير مثل الصانع والعلي في كتابهما "إمارة الزبير بين هجرتين"، وكذلك عبدالعزيز الناصر "الزبير وصفحات مشرقة من تاريخها العلمي والثقافي" وسعود الربيعة "الحركة العلمية بين نجد والزبير"، وما كتب علي الباحسين وعبداللطيف الحميدان ويوسف البسام وغيرهم عن الزبير وأهلها.
هذه الكتب كانت تناقش الكويت ونجد والزبير ثقافيا بشكل عام، ولكن هناك من تفرّد بالكتابة وتأليف الكتب من النساء مثل بحث دلال مخلد الحربي "إسهام المرأة في وقف الكتب في منطقة نجد" وكذلك مَن كتب عن تقييدات النجديين على المخطوطات مثل كتاب نادية اليحيى وهناك كتاب لمنصور الهاجري "نساء من بلدي" ذكر فيه بعض أسماء المطوعات اللاتي درسن في الكتاتيب في الكويت قديما. 
الحياة العلمية بين نجد والزبير والكويت
إنّ التشابه الثقافي والحضاري والاجتماعي بين نجد والزبير والكويت كانت له انعكاساته على الحياة العلمية والثقافية بين هذه المراكز السياسية والثقافية، فالهجرات من نجد إلى الزبير والكويت، لأسباب عديدة، ساهمت في وجود تقاطعات بين علماء ومثقفي هذه الأقطار. إنّ الهجرات السياسية بشكل خاص كانت السبب الرئيسي في نزوح العلماء من نجد إلى الزبير تحديدا وبدرجة أقل من الكويت الأمر الذي ساهم في بداية ظهور المدارس النظامية في الزبير على وجه التحديد وبروز جيل جديد من العلماء النجديين فيها. لم تكن الكويت دارَ علم ولم يشتهر عنها ذلك، بل كانت دار رزق وتجارة واقتصاد، وهذا لا يمنع من وجود حركة علمية وثقافية ووجودِ علماء فيها، وإنما المقصود أنها لم تكنْ دارا، أي أن طلبة العلم لم يكونوا يقصدونها، بل كان علماء الكويت يتجهون إلى مراكز حضارية وعلمية قريبة منهم كبغداد والزبير والأحساء والبصرة والشام ومصر لطلب العلم والدراسة على المشايخ هناك. 
كذلك كانت هناك حركة علمية داخل نجد وبين مدنها، وفيها مراكز لطلب العلم، أشار أحمد البسام ومي العيسى لذلك في كتابيهما. فعلى سبيل المثال ذَكَرا أن هناك انتقالات بين المراكز العلمية في نجد للدراسة والتفقه في الدين مثل انتقال الشيخ أحمد بن شبانه إلى أشيقر للدراسة على الشيخ أحمد القصير، وكذلك الشيخ عبدالله بن عيسى بن مويس الذي أخذ عن العلماء النجديين، ورحل بعد ذلك لطلب العلم في الشام، وكذلك الشيخ منيع بن محمد العوسجي الذي انتقل للدراسة على الشيخ عبدالله بن ذهلان في الرياض والشيخ عبدالرحمن بن عفالق في الأحساء. مي العيسى كان لها جهود إحصائية مميزة لتبيان الفوارق في السنوات وكذلك المقارنة بين الفترات الزمنية والمناطق الجغرافية، الأمر الذي ساهم في توضيح الكثير من المسائل المعينة على فهم الحياة العلمية في نجد في تلك الفترة.
اشتهرت الكويت بالكتاتيب والمطاوعة والملالوه -أي معلمو الصبية- ولم تشتهر بعلماء كانوا يستقطبون طلبة العلم في الجزيرة العربية، وقد ذم الشيخ يوسف بن عيسى هؤلاء في كتابه "صفحات من تاريخ الكويت" ولم يعطهم صبغة العلم عندما قال: "... والمطوع نفسه لا يحسن التجويد ولا رسم الخط ولا يميز بين القاف والغين ولهذا تجد الكويتي لا يفرق في كتابته ولا في نطقه بينهما". لذا كان علماء الكويت يتجهون للتعلم خارجها مثل رحلة الشيخ يوسف بن عيسى والشيخ أحمد العدساني للتعلم في الأحساء، وكذلك رحلة الشيخ عبدالله الخلف الدحيان والشيخ عبدالعزيز الرشيد للزبير والشيخ أحمد الفارسي لمصر وكذلك فعل الشيخ مساعد العازمي.
أما الزبير فقد هاجر لها علماء كبار وفقهاء واستقروا فيها أو بالقرب منها في البصرة، ولعل أبرزهم الشيخ محمد بن عبدالله بن فيروز إمام الحنابلة في زمانه والشيخ محمد بن سلوم. ثم ولد في الزبير الشيخ إبراهيم بن جديد الذي كان له دور كبير في تأسيس مدرسة الدويحس في القرن الثاني عشر الهجري، في حين أن المدارس النظامية في الكويت ونجد تأسست بعد ذلك بكثير. الشيخ ابن جديد كان من تلاميذ العالم الشيخ محمد بن عبد الله بن فيروز، حتى قال عنه ابن حميد في «السحب الوابلة»: "ونفع الله به أهل بلده، بل جميع تلك البلدان، ورغّبهم وحثهم على العلم، فتسارعوا للأخذ عنه، ونَجَبَ منهم خلق كثير، خصوصًا في الفقه، وتنافسوا في تحصيل كتب المذهب، وتغالوا في أثمانها واستنساخها، وصار للعلم سوق قائمة، وزهت البلد، وصار يُرحل إليها لأخذ مذهب الإمام أحمد، وبنى بعض الموقفين مدرسة للطلبة الوافدين، وأنفق عليها جميع ما يملكه فصار مأوى المستفيدين" وله دور كبير في تأسيس الزبير كأحد مراكز العلم الحضارية في الخليج والجزيرة العربية.
[وقف كتاب العذب الفائض من طرفة بنت ناصر العبدالكريم لعبد الله بن ناصر بن جبر].

النساء والعلم في الزبير ونجد
استقطبت مدرسة الدويحس لما فيها ممن مميزات العديدَ من الطلبة من نجد والأحساء والكويت وبغداد؛ لأن القائمين على المدرسة كانوا يتكفلون بطلبة العلم من خلال الأوقاف الموجودة وكذلك يعطون للطلبة رواتب ويسهلون عليهم أمور الدراسة والعلم. هذه البيئة العلمية ساهمت ببروز بعض النساء اللاتي أصبحن عالمات في الزبير وعلى رأسهن الشيخة فاطمة الفضيلية، وكنت قد ناقشت دور هذه العالمة الجليلة بإسهاب في مقال عنونته "طموح في زمن الإهمال: فاطمة الفضيلية علم راسخ وتاريخ مشرق" نشرته في موقع جدلية. ولعلي هنا أشير إلى بعض ما ذكرتُه في ذلك المقال من باب تعريف القارئ الكريم بهذه العالمة. قرأتْ الشيخة فاطمة على علماء الزبير وأكثرت من القراءة على عالم الزبير في زمنه الشيخ إبراهيم بن جديد وأخذتْ عنه الإجازة في التفسير والحديث والفقه، كما أخذت العلم عن الشيخ محمد بن حمد الهديبي، كما أنها تعلمت الخط من صغرها فأتقنته. وعندما هاجرت وسكنت مكة، تردد عليها غالب علماء مكة وسمعوا منها وأسمعوها. يقول ابن حميد في السحب الوابلة حول سماعها والسماع منها من قِبَل علماء مكة في زمانهم:
" ... فتردد عليها غالب علماء مكة المشرفة وسمعوا منها وأسمعوها وأجازتهم وأجازوها خصوصا قَمَريْها النيّرين العلامة الورع الزاهد الثبت القدوة شيخ الإسلام الشيخ عمر عبد (رب) الرسول الحنفي والعلامة الحجة الورع العمدة الشيخ محمد صالح الريس مفتي الشافعية فإنهما كانا كثيري التردد إليها والسماع منها من وراء ستارة". 
إنّ التشابه الثقافي والحضاري والاجتماعي بين نجد والزبير والكويت كانت له انعكاساته على الحياة العلمية والثقافية بين هذه المراكز السياسية والثقافية،
كانت الفضيلية الزبيرية قارئة نهمة ذات عقل نقدي وذهن حاضر. رُوي عنها أنها كتبت بقلمها مناقشات انتقدت فيها الأخفش، النحوي المشهور، كما أن لها تعليقات على شروح المنتهى والإقناع وحواشي الشيخ منصور في فقه الحنابلة. كما أنها أكملت شرح صحيح مسلم ونسخت بخط يدها مجموعَ الشيخ أحمد بن منقور كما يروي صاحب كتاب «الحركة العلمية بين نجد والزبير خلال ثلاثة قرون».
لم يتوقف دور النساء في العلم الشرعي على وجود الفضيلية وإن كانت أعلاهن رتبةً في العلم، لكن وُجِدَتْ نساء حملن راية العلم في القرن الثالث عشر الهجري وهو القرن الذي توفيت فيه الفضيلية مثل حصة الحنيف، وقد ترجم لها الناصر في كتابه "الزبير وصفحات مشرقة من تاريخها الثقافي" إذ إنها كانت متزوجة من فقيه هو صالح بن حمد المبيض وكان مدرسا في مدرسة الدويحس وكانت حصة الحنيف تدرس البنات القرآن وفقه العبادات والقراءة والكتابة. وبعد وفاة زوجها غادرت الزبير إلى الهند لتعليم بنات الجالية العربية هناك وكان ذلك بطلب من التاجر قاسم الإبراهيم بعد زيارته للزبير. انتقلت حصة الحنيف للهند وفعلا كان لها مدرسة هناك لمدة خمسِ سنوات ثم عادت للزبير وتوفيت فيها.
وأخيرا، وُلِدَتْ في الزبير في القرن الرابع عشر شيخة بنت عبدالرحمن الحاتم وكانت سريعة الحفظ مع جِدّ واجتهاد كما ذكر ذلك البسام في كتابه "علماء نجد" وعندما بلغت العاشرة منعها والدها من الذهاب للتعلم لكنها كانت تذهب سرا لبعض زميلاتها لتطلع على دروسهن وتتعلم منهن ما تعلموه. وعندما قدم جدها عبدالله الحاتم من نجد وكان عالما درست عليه أحكام التجويد والحديث والفقه وحفظت بعض المتون العلمية. ومنذ قدوم جدها تمكنت من الدراسة على علماء الزبير من وراء حجاب مثل الشيخ عبدالله بن حمود والشيخ عبدالله المهيدب والشيخ عبدالله السند. كانت شيخة الحاتم كما ذكر عبدالعزيز الناصر قد قرأت كتب "الروض الفائق" و"تنبيه الغافلين" و "دقائق الأخبار في ذكر أهل الجنة والنار" و"صحيح البخاري ومسلم". كانت لشيخة الحاتم مكتبة كبيرة خافت عليها من الضياع فوزعتها على طلبة العلم في حياتها. 
كذلك هناك نساء تميزن ببعض فنون العلم ذكرهم صاحبا كتاب. "إمارة الزبير بين هجرتين" مثل شريفة الوطبان وكانت متخصصة في الأدب العربي وتحفظ ديوان المتنبي، وشاهة بنت سليمان الفواز التي شرحت الأربعين النووية وعائشة بنت عبدالجبار اليحيى التي درست إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في بيتها.
أما في نجد فقد برزت فاطمة بنت الشيخ محمد بن عبدالوهاب وهي من عالمات القرن الثالث عشر وترجم لها البسام في كتابه "علماء نجد" إذ ذكر أنها تَلْمَذَتْ لإخوتها وكانوا جميعا من العلماء، ويروي البسام أن الشيخة فاطمة كانت تدرس في منزلها السيرة النبوية والعلوم الشرعية وأنها اتجهت للعلم منذ صغرها وشغلها ذلك عن الزواج. أما في الكويت فقد بحثْتُ عن عالمات لهن باع في العلوم الشرعية فلم أجد، وغالب من وجدتُ سيرهن كن من المطوعات وقد ذكرنا سابقا رأي الشيخ يوسف بن عيسى في مستوى المطاوعة والملالوه في الكويت.
[محمد بن جاسر بن ناصر بن عبدالكريم. هو ابن أخ طرفه يلاحظ في وقفيته المؤرخه عام ١٢٣٩ هجري يذكر فيها جزء من الوقف يذهب إلى طلبة العلم. من محفوظات أسرة العبدالكريم الخاصة].

وقف النساء للكتب: طرفة بنت ناصر العبدالكريم نموذجا
يلاحظ مما سبق أن معظم النساء اللاتي كن عالمات كانت أسرهن أسر علم أو مال، باستثناء الشيخة فاطمة الفضيلية، إذ لم تذكر المصادر ما إذا كان أهلها أهل علم أو مال. إن وجود العلم أو المال في الأسرة يساهم في إيجاد بيئة مناسبة للفتيات للتعلم والاهتمام بالكتب، وهذا الأمر لا يتوفر عند الفقراء مثلا في ذاك الزمان الذي استشرى فيه الجهل وساد. وللتدليل على ذلك تكاد تكون كل النساء اللاتي وَقفْنَ كتبا وذكرتهن دلال الحربي في بحثها "إسهام المرأة في وقف الكتب في منطقة نجد" من هذه الفئة أي أن أهلهن كانوا إما علماء أو أمراء وأصحاب مال وتجارة. فعلى سبيل المثال ذكرت وقفيات أميرات آل سعود مثل الأميرة نورة بنت الإمام فيصل بن تركي التي وَقَفت في القرن الثالث عشر كتبا لابن القيم الجوزية والروض المربع للبهوتي وكذلك صحيح البخاري. وفعلت مثلها أختها الجوهرة التي وَقفت كتاب حادي الأرواح لابن القيم وكانت عمتها سارة بنت الإمام تركي قد وَقفت كتاب فتح المجيد بشرح كتاب التوحيد لعبدالرحمن بن حسن. أما أميرات الرشيد منهن خنساء الرشيد التي وَقفت نسخة مطبوعة من كتاب إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، أما طريفة بنت عبيد بن علي الرشيد وهي زوجة الإمام عبدالله بن فيصل بن تركي فقد وَقف لها وقفاً بعد وفاتها. ومن نساء حائل فاطمة بنت زامل السبهان فقد وَقفت نسخة مطبوعة من كتاب أُسْد الغابة في معرفة الصحابة من خمسة أجزاء. ولم يتوقف الأمر عند الأميرات أو النساء من الأسرة التجارية فقد وَقفت إحدى إماء الرشيد وهي نورة مولاة محمد الرشيد الطرق الحكمية وشرح المنتهى وهذا دليل على تأثر هذه الأمة بالمحيط الثقافي الموجود في بيت إمارة الرشيد. أما أكثر من وَقفن الكتب في نجد فهن شما ورقية بنات عوض بن محمد الحجي وأمهن قوت اللاتي وقفن حوالي ٦٠ كتابا في مختلف الفنون كالتاريخ واللغة والفقه والحديث. 
كانت طرفة بنت ناصر بن عبدالكريم بن الأمير عثمان بن معمر سليلة هذه البيئة ومن أسرة حكم، فأهلها كانوا يحكمون العيينة قبل قيام الدولة السعودية الأولى. ولدت في بداية القرن الثالث عشر الهجري، وقد ذكر لي الأخ قحطان العبدالكريم أن الاحتمال الأكبر أن يكون مسقط رأسها ومكان ولادتها مدينة حرمة في إقليم سدير مع باقي إخوتها من ذرية ناصر بن عبدالكريم بن عثمان بن معمر، وقد اطلعت على وثيقة محفوظة لدى أسرة العبدالكريم فيها ذكر لطرفة في حرمة وكان والدها ناصر قد توفي في حرمة وهاجرت هي وإخوتها للزبير وكانت لهم في الزبير أملاك وأوقاف كثيرة. تزوجت طرفة من عيسى بن إبراهيم من العناقر وهذه الأسرة كانت لها إسهامات ثقافية في الكويت، إذ يذكر خليفة الوقيان في كتابه "الثقافة في الكويت" بأن علي بن إبراهيم أخ عيسى كان قد تبرع بطبع كتاب "نيل المآرب بشرح دليل الطالب" وأسرة الابراهيم العناقر لها باع طويل في دعم العلم والعلماء والثقافة في العالم العربي ليس هذا مكان شرحه. وطرفة بنت ناصر هي جدة يوسف الابراهيم لأبيه الذي كان معارضا للشيخ مبارك الصباح.
لم تكن البيئة العلمية مقتصرة على زوج طرفة بل كانت أسرتها ذاتها فيها علماء، فهذا حمد بن ناصر بن معمر ابن عم لوالد طرفة الذي ولد في العيينه ودرس على الشيخ محمد بن عبدالوهاب وتعلم الفقه والعلوم الشرعية وكان قد تولى القضاء في الدرعية ثم بعثه الإمام عبدالعزيز بن سعود في الدولة السعودية الأولى رئيسا لوفد ذهب لمناظرة علماء مكة، وكذلك ابنه عبدالعزيز بن حمد بن ناصر بن عثمان بن معمر الذي كان له باع في العلم. كما أن الكثير من أوقاف أسرة العبدالكريم خصوصا الفرع الذي تنتمي له طرفة لهم أوقاف كثيرة في البصرة يكون جزء منها مخصص لطلبة العلم.
فعلى سبيل المثال وَقْفُ محمد بن جاسر بن ناصر العبدالكريم المؤرخ في ١٢٣٩ للهجرة ذكر فيه أن جزءا من الوقف يذهب لطلبة العلم كما أن الكثير من أوقاف الأسرة التي اطلعت عليها يذهب جزء منها للمساجد وللأئمة وحتى للسراج في المسجد. وهذا مما ينفع العلم وطلبته، فالمساجد من مراكز تحصيل العلم. كما أن أخ طرفة الشقيق عبدالمحسن بن ناصر العبدالكريم له وقف ورد فيه "على مصالح مدرسة محمد بن رواف الواقعة في بلد الزبير" في سنة ١٢٤١ للهجرة. 
كل هذه العوامل جعلت طرفة تدرك أهمية العلم والعلماء، وكذلك كونها نشأت في بيئة فيها من العلماء وفيها كذلك وفرة مادية وتزوجت واندمجت في أسرة لها باع كذلك في الثروة ودعم العلم، ولذلك فإن وقفها كتاب "العذب الفائض عمدة الفارض" وهو من تأليف الشيخ إبراهيم بن عبدالله بن إبراهيم بن سيف الشمري وهو عالم له باع كبير في العلم قال عنه مؤلف كتاب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة " العلامة الفهامة المحقق المدقق ولد في المدينة المنورة ونشأ بها وقرأ على علمائها... فبرع في الفقه والفرائض والحساب وشارك في جميع الفنون وانتهت إليه رئاسة المذهب في الحجاز سيما علم الفرائض... فكان يرحل إليه لأجله ويرسل إليه كل عويص فينهم بحله وصنف كتاب "العذب الفائض شرح ألفية الفرائض" جمع فيه جمعا بديعا وحوى المذاهب الأربعة تأصيلا وتفريعا وأحصى علوم الحساب جميعا..." والكتاب وصفه البسام في كتابه علماء نجد بأنه كتاب ضخم وهو مفيد في بابه إلا أن الهمم قصرت على استيعابه.
وَقفتْ طرفة العبدالكريم هذا الكتاب القيم على شيخ وقاض له باع طويل في العلم هو عبدالله بن ناصر بن جبر الذي توفي في عام ١٢٦٨ للهجرة وقد وصف في العديد من المصادر النجدية بأنه "عالم فاضل" كما ذكر ابن عيسى أو "العالم الحبر" كما ذكر ذلك ابن بشر. عمل عبدالله بن جبر قاضيا في بلدة منفوحة وكان يحضر مجلس الإمام فيصل بن تركي فيقرأ فيه كتاب "سراج الملك" كما ذكر ذلك البسام في علماء نجد.
عند قراءة نص الوقف وهو محفوظ في أرشيف المخطوطات في وزارة الأوقاف الكويتية نجد أن طرفة بنت ناصر لم تكن واقفة وحسب بل كانت أيضا مالكة لهذا الكتاب ويرجح أنها درسته أو اطلعت على ما فيه وتعرف قيمته وأهميته ولذلك وَقفتْه على عبدالله بن جبر مدة حياته وحسب! يذكر نص الوقف " ... أن الحرة الرشيدة طرفة بنت ناصر في صحة من عقلها ... قد وقفت ... وتصدقت بما هو ملكها وفي يدها وتحت تصرفها وهو هذا الكتاب المسمى بالعذب الفائض في علم الفرائض للشيخ إبراهيم بن عبدالله الحنبلي وقفته على عبدالله بن ناصر بن جبر مدة حياته...". وقد يكون سبب هذا الوقف كذلك العلاقة بين أسرة العبدالكريم وبين آل سعود وكذلك آل جبر كما تنص الرواية الشفهية عند هذه الأسرة خصوصا وأن هناك تصاهر قديم بين آل سعود وآل معمر.
وقد يكون من المرجح أن الشيخ عبدالله بن جبر كان في الزبير لطلب العلم، فقد ذكر خالد المانع في كتابه "موقفو المخطوطات النجديون" نقلا عن راشد بن عساكر بأن عبدالله بن جبر زار ودرس في الزبير. وقد ذكر العساكر في كتابه "منفوحة في عهد الدولة السعودية الأولى والثانية" أن لديه وثيقة تؤكد وجود ابن جبر في الزبير بعد سقوط الدولة السعودية الأولى بناءً على وثيقة لديه صورةٌ منها كما أشار في الهامش، ورجح العساكر أن ابن جبر هو عبدالله بن ناصر بن محمد الجبري ذاته الذي ذكره البسام في الجزء الرابع من كتابه "علماء نجد" وبين أنه درس على الشيخ محمد بن سلوم علم الفرائض وحسابها. 
وهذا الرأي أعتقد أنا كذلك بصوابه إذ إن الكتاب الموقوف على ابن جبر هو في علم الفرائض، وكان العلماء الزبيريون متسامحين مع خصومهم الذين يأتون للزبير في حال ضعفهم خصوصا وأن الزبير كانت من حواضر العلم في زمانها، وفيها مدرسة نظامية كمدرسة الدويحس، وكذلك العديد من العلماء الذين لهم باع في العلم وفنونه حتى إنه كان ابن جبر كما ذكر العساكر "من كبار علماء نجد وله مواقف وبلاء في مناصرة الدعوة السلفية التي قام بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب". ذكر ابن غملاس في كتابه "الإعلام في أعيان بلد الزبير بن العوام" في ترجمة الشيخ إبراهيم بن جديد "ومما شاع من حلمه أن بعض أهل نجد هجاه وكفره...لكونه أنكر على الشيخ محمد بن عبدالوهاب والهاجي موافق لابن عبدالوهاب، فاتفق أنه افتقر ونسي ما جرى فسافر لبلد الزبير والشيخ المترجم إذ ذاك عينها الباصرة... فعندما سمع ]الشيخ ابراهيم[ بوصول الهاجي أرسل إليه بكسوة ودراهم..." 
ويذكر الأخ قحطان العبدالكريم وهو مطلع بشكل عميق على أرشيف أسرته أن طرفة توفت ما بين العام ١٢٤٥ حتى ١٢٥٥ في الزبير بحسب ما أشارت له بعض الوقفيات المحفوظة في أرشيف العبدالكريم، ويرجح قحطان العبدالكريم أن طرفة لم تستقر مع زوجها في الكويت حيث كان زواجها في الزبير لا في الكويت. ولكون الزبير مشيخة علم وفيها العديد من العلماء يرجح أن يكون هذا الرأي صحيحا إذا ما عرفنا أن الكثير من طلبة العلم النجديين يقصدون الزبير لطلب العلم والاستزادة منه. وهذا الترجيح هو رأي ولا يعني بالضرورة أنه حقيقة، ولعل مهتما أو باحثا يطلع على هذا المقال فيضيف له أو يصححه أو ينتقده فهذا هو المقصود من وراء النشر. 
كذلك لم يعرف خالد المانع من هي طرفة بنت ناصر وظن أنها ربما تكون أخت عبدالله بن ناصر بن جبر، لكن من أسماء الشهود على الوقفية وهم يوسف بن عبدالمحسن بن ناصر العبدالكريم وهو ابن أخ طرفة وكذلك أبناء عمومتها عبداللطيف بن إبراهيم العبدالكريم وعبداللطيف بن محمد بن جاسر العبدالكريم. من هنا فطرفة الموقفة هي من آل عبدالكريم المعمر فالشيخ عبدالله بن جبر لم يكن مقيما في الزبير ولا مهاجرا إليها حتى تكون الواقفة عليه أخته. 

إنّ موضوع اهتمام النساء بالعلم والثقافة في نجد والزبير والكويت بالعلم يحتاج لمزيد من الاهتمام والبحث والتحليل، وربما مع ظهور العديد من الوثائق الأهلية وكذلك سهولة الوصول للأرشيفات الحكومية في هذه الأيام فإن هذا مما يساعد الباحثين على الكتابة بشكل أعمق حول هذا الموضوع. كما أنني أدعو الباحثين الذي يكتبون باللغة العربية لممارسة النقد العلمي البنّاء والكتابة النقدية ليتطور الحقل التاريخي بشكل أكبر؛ لأن النقد العلمي يوسع الأفق ويساعد الباحثين على الربط والتحليل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...