الخميس، 2 نوفمبر 2017

الأقشر


الأقشر في لهجتنا المحلية تعني صاحب المشاكل الذي يخافه الناس، وفي أحيان أخرى تعني الانسان الذي لا يستطيع التفاهم مع الآخرين بتفاهم وربما كان الانسان القاسي. تطلق كلمة أقشر على الزمان والإنسان والمكان أيضا فمثلا يقال "الوقت أقشر" أي صعب ويقال فلان أقشر وفلانة قشره وكل المعاني سلبية لكلمة أقشر لم أجد لها معنى ايجابي وقد يكون موجودا لكنني لم أصل له.

منذ سنوات عديدة غيرت طريقتي في التعامل مع الناس صرت رجلا يصرح برأيه دون مراعاة للمشاعر في أحيان كثيره متى ما امتلكت الدليل أو الحجة. هذا الفعل كي أكون صادقا معكم فض الكثيرين من حولي وصار الأغلب يتحاشى الحديث معي خوفا مما سيأتيه مني. بعد عودتي من رحلة الدراسة في بريطانيا ترسخ مفهوم الصراحة عندي بشكل أكبر حتى صار الأصدقاء من حولي يقولون لي "عبد الرحمن انتبه لن تفيد أحد خفف من حدتك!" وآخرون ينقلون لي تندر بعضهم على من خلال قولهم " لن تأخذ من عبد الرحمن شيء فهو أقشر!" والشيء هنا متعلق بالوثائق والتاريخ لا شيء آخر. 

لن أكذب على نفسي وعليكم وأقول إن مثل هذه الأقوال لم تؤثر بي سلبا أو تدفعني للتفكير مرارا بفعلي وطريقة حياتي. هذا التفكير قادني لكتابة هذا المقال الذي أشرح فيه فهمي للفرق بين الصراحة والقشاره! بين قول الحق دون خشيه سوى من الله وبين المجاملات الاجتماعية التي ابتلى بها العالم بشكل عام ونحن في الخليج بشكل مبالغ فيه. هذا الفارق "قد" يعرفه من هم حولي أو من يعرفني عن قرب. فالفارق بين أن تكون صريحا وبين أن تكون أقشرا فارق كبير جدا. أول هذه الفروقات أن القشاره في الغالب يرافقها نوع من قلة الأدب وعدم احترام الآخر أو تقدير الكبير والصغير! وبصراحة أكثر مثال يمر على خيالي وأنا اكتب المقال هو شخصية حسين بن عاقول للفنان الراحل عبد الحسين عبد الرضا في مسلسل درب الزلق. حسينوه في المسلسل أقشر فهو غير مهذب مع خاله وجاره وأخيه ومسؤوله في العمل. يذهب للعصبية بعدما يخالف القوانين أو لا يعجبه الرأي الآخر ولا يضع للأعراف والقوانين العامة والأخلاق والدين مكانا مهما في تصرفاته. هذه التصرفات القشره تدل على شخصية سطحيه وربما أقول أنانية هدفها الرئيس هو الوصول لما تريد دون الاكتراث بالبيئة المحيطة بالحدث وبصاحب الحدث.

على نقيض ذلك الإنسان الصريح هو من يجيب دون قيود عندما يسأل والإجابه تكون بأدب واحترام، لا أعمم هنا إنما أقول هذا الواجب لأن الصراحة بعد السؤال ضرورية إذا امتلك المجيب الحجة والدليل أما الصراحة دون وعي وفهم فهذه بلا شك مرفوضة وقد تصنف ضم الوقاحه. الفارق الثاني بين الصريح والأقشر أن الصريح لا يذهب للأخرين حتى يتحدث معهم فيما لا يعينه لأن ذلك ليس من الذوق في شيء إنما إذا ربطته مع الآخر علاقة فهو يتقدم بالنصيحة من باب الصداقة، الأخوه، العلاقة الخ مع اشتراط امتلاك الخبره والدليل والحجة. أما الأقشر في مثل هذه الأحوال فهو غير لبق يتحدث بحدة لمجرد الحديث أو لأن الأمر لا يعجبه ولا يستمع للرأي والرأي الآخر ويقوده الغضب ناحية افتعال المشاكل بعد اليأس من اقناع المقابل له بحجته الضعيفه.

نعود لقضيتي، بعد مراجعة شاملة لحياتي وجدت نفسي اتحدث بما في عقلي دون اكتراث لمشاعر الاخر وقد يقول أحدكم فعلك هذا ليس من الأدب في شيء! وهو محق إن كانت ردة فعلي وصراحتي على فعل عادي. مثال ذلك، لو زرت أحدهم فقدم لي شيئا لآكله أو أشربه وسألني عن رأيي فيه فكان جوابي له سلبيا، السلبية هنا وقاحة بلا شك فهذا المقال ليس مقام نصح وارشاد إنما مقام احترام المضيف وتقدير اكرامه لك. لست أتحدث عن الصراحة في مثل هذه المواقف إنما صراحتي تكون في ثلاث مسائل محدده هي: (١) المسائل العلمية، (٢) مسائل الصداقة والعلاقات، (٣) التعبير عن الرأي في القضايا العامة.

المقصود بالمسائل العلمية هنا ما يتعلق بتخصصي التاريخ، والتاريخ موضوع محبب للعامة والخاصة فالبعض يعتبره قصصا يستأنس بها والبعض الآخر يجدهم مصدرا للفخر والاعتزاز وآخرين يعتبرونه موضوعا سهلا بالإمكان الخوض فيه دون حاجة للتعمق والتدبر. صراحتي هنا تكون دائما قاسية، وكلمة قسوه هنا وصفها لي بعض الأصدقاء، أما أنا فلا اعتبرها قاسية إنما اعتبرها حوارا جادا. أنا مؤمن بأن العلم رحم بين أهله وأنا لا أعرف أهل العلم كلهم ولذا مثل هذه المواقف تميز لي الغث من السمين في علم التاريخ فمن يتضايق من الدليل الذي يخالف رأيه أو من التحليل الذي يتعارض مع ما يطرحه ولا يقوى على رد الحجة بالحجة ولا يقدر على نقض التحليل المنطقي فالأولى به أخذ الحجج الأخرى والتفكير بها. ولكون تخصص التاريخ الحديث مرتبط بواقعنا الاجتماعي اليوم فنقض ما في أذهان الناس مؤلم للكثيرين وإن كانت الحجة والدليل يسبقان النقض أو النقد وخصوصا في تاريخ الخليج فالاعتزاز بالعائلة والقبيلة والطائفة له سوق رائج والكثير من المصفقين. ردود بعض أفعال الأكاديميين أو المثقفين السطحية هي ما تؤلمني حقا، فعندما نقض مقالا، كتابا، رأيا له بشكل علمي يبدأ بإلصاق التهم الغير الأكاديمية بك ولعل أبرز هذه التهم "هذا الرجل أقشر لا أرغب في الرد عليه". ولعل الأكاديمي أو المثقف نسى أو تناسى أن نقد الدراسات السابقة جزء أساسي من التعليم الحديث خصوصا في الدراسات العليا لأن هذا النقد يطور العلم ويساعد الباحثين على سدد الخلل في أعامل من سبقهم. سدد الخلل هنا لا يعني ضعف ما كتب من قبل إنما تطويره ولذا فمن لا يتقبل النقد برأيي لا يعتبر من العلماء أو المثقفين فكما ذكرت لكم العلم رحم بين أهله وأنا أقول لأصدقائي دائما العلم "رحب" بين أهله!



المسألة الثانية التي أحب أن أكون صريحا بها هي مسألة الصداقة والعلاقات، فبطبعي لا أحب المجاملات التي أعتبرها نفاقا ويمارسها الكثير. هنا لا بد لي من توضيح ماذا أقصد بالنفاق الاجتماعي وأعرفه حتى يتضح للقارئ الكريم مقصدي ولا يفسر الكلمة كما يفهمها. تعريفي للنفاق الاجتماعي " المجاملات التي نقوم بها تجاه أشخاص لا نحب لقائهم أو الجلوس معهم وربما حتى رؤيتهم بحجة أن العرف ذلك". المثال يوضح المقال بشكل أوضح، هب أن رجلا يخالفني في نظرتي للحياة وطريقة معيشتي وربما نكون متناقضين في كل شيء لكنني عرفته في زمن ما وكانت بيننا علاقة وطيدة ثم نضجت ونضج هو وصارت اللقاءات ثقيلة علي وعليه لكن من باب المجاملة وحفظ الود السابق نستمر في اللقاء دون رغبة من كلا الطرفين أو أحدهما. في مثل هذه الحالات أنا أكون صريحا مع الطرف الآخر بالطلب منه بكل احترام وأدب أن نتوقف عن اللقاء وتبقى بيننا الذكرى التي قد تكون جميلة. هل هذا الأمر سيستمر للأبد؟ طبعا لا لأن القضية قضية فكرية بحته ليست لها علاقة بشكل أو لون إنما تتعلق بعقليتي وعقلية من يقابلني فمتى ما كان المشترك أكثر من المختلف كان التقارب محببا. هل هذه قاعدة عندي؟ طبعا لا في بعض الأحيان تكون الاختلافات كبيرة لكن كلا الطرفين يفهم أن الحوار حق أصيل والاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، ويفهم كذلك أن الحوارات بين المختلفين ليست ساحات للمعارك إنما مسارح فكرية نشاهد فيها من يختلف معنا ولسنا ملزمين باتباعه إنما بالتصفيق له إذا أحسن ونقده إذا لم نوافقه وفق الأطر العلمية.

ثالث النقاط ولعلها تكون خاصة في الكويت والخليج التعبير عن الآراء في القضايا العامة بشكل واضح. فحينما يطرح موضوع عام للنقاش في السياسة أو الاقتصاد أو الرياضة أو غيرها وتطرح بعض الأسماء والأفكار فلا قدسية للشخصيات العامة حتى إن كان أحد الحضور من أقارب تلك الشخصية أو اصهارها. وعدم وجود القدسية لا تعني الانزلاق في قلة الأدب أو السخرية من هذه الشخصية إنما نقد الفعل العام الذي قامت به. في الكويت تحديدا نجد نقد الوزراء والنواب يقل في حال وجود شخص في المجلس أو مجموعة الوتس اب قريب من تلك الشخصية احتراما له! أنا لا اعتبر ذلك احتراما إنما نفاقا فانتقاد افعال الشخصيات العامة لا يجب أن يوقفه مجاملة لشخص من الأشخاص متى ما امتلكنا الدليل والحجة لأن المجاملة سوف تجعلنا نغض الطرف عن الأفعال الخطأ بسبب الحرج.

الصراحة لا تعني القشارة الصراحة تعني أنك مؤمن بمبادئك ملتزم بها ولا تجامل في حال معارضة الآخرين لها. الصراحة تعني الأدب واحترام الآخر وتقدير رأيه دون الحاجة لموافقته أو الحرج من الرد عليه بحجج اجتماعية قد تتغير في السنوات القادمة. الصراحة تعني أن الدليل والحجة والبرهان أهم من مشاعر المثقف والأكاديمي والعالم الذي اجتهد فأخطأ ففي العلم النقد مطلوب ويجب علينا أن ننتقد بأدب لكن لا نجامل في نقدنا وننقض الحجة بالحجة ونصحح الخطأ. الصراحة تكون في عدم التصفيق للمخطئ لأننا نعرف قريبا أو حبيبا أو صديقا فالشخصيات العامة لها أثر على حياتنا وحياة الأجيال القادمة وعدم ايقاف الشخصية العامة التي لا تحسن التصرف عند حدها كفيل بأن يهلكنا جميعا!


شوارد:

"من لا يتقبل النقد فهو لا بد يخفي شيئا"

هلموت شميت
    


هناك تعليق واحد:

  1. هي حياة واحدة فلتعشها كما شئت وليقولوا مايقولو.
    مقال جميل جدا يعبر عما نضعه حول حياتنا من قيود وما نلزم به انفسنا من قوانين ماانزل الله بها من سلطان!
    دمت ...

    ردحذف

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...