الجمعة، 20 أكتوبر 2017

مأزق!

منذ عودتي من اكستر اعترف بأنني أصبحت كثير الانتقاد لواقعي ، لم يعد يعجبني أي شيء ولم أعد استطيع تحمل الخطأ الظاهر مثل التجاوز الكبير على قوانين المرور ، استسهال الاعتداء على حرية الآخرين الفكرية والشخصية دون أسس علمية أو حوارات مبنية على مبادئ ، وفقداني شخصيا للبيئة الأكاديمية العلمية والمكان الذي أجد فيه خلوتي. الكسل والتسويف وربما سلبية من لديهم القدرة على النهوض بفكر وعقلية المجتمع الذي نعيش فيه. جميع ما سبق سوف أتحدث عنه بمزيد من التفصيل في قادم المقال لكن دعوني أطرح عليكم ردة فعل بعض الناس ، ممن هم حولي ، تجاه طريقتي في التعاطي مع الحياة والعزله الشعورية التي أجدها بشكل شبه دائم.

سوف انطلق من سؤال طرح علي " لماذا أنت متحيز للغرب؟ أنت تعلم أن سلبياتنا موجودة في الغرب كذلك فما الفارق؟" لست متحيزا للغرب أبدا واعتقد لو ذهبت لليابان او سنغافورة  في أقصى الشرق فقد تكون ردة فعلي مشابهه لما أنا عليه اليوم. القضية لست في البلد ذاته إنما في سلوك أهل وحضارتهم ولست معنيا في هذا المقال أن اعرف ما هو السلوك وما هي الحضارة وهل السلوك الذي نشاهده منطلقه الخوف من القانون أم القناعة بالمبدأ هذه التساؤلات لها تقديرها وهي منطقية لكن ليس هذا مكانها. الفكرة الرئيسية هي البيئة الحاضنه للانسان وهل يتغير الإنسان بتغير بيئته، والتغيير الذي اقصده هنا التغير الفكري العقلي لا السلوكي إذ بإمكان الإنسان أن يتطور فكريا وتتسع مدارك عقله ويبقى محافظا على السلوك الحسن الذي عنده حتى وإن كان في أعراف من استقر عندهم خطأ. مثال ذلك سلوك الكرم عندنا كعرب ومسلمين له قيمة عالية بينما عند الانجليز ، وهم من عشت بينهم، يعتبر مضيعه للمال فهل تغيري الفكري يستوجب علي تغيير سلوكي الصحيح؟ بالطبع لا والأمثلة كثيرة على ذلك. وكلما تحدثت في موضوع التطور الفكري والعقلي في قضية تغيير البيئة جذبني عقلي ناحية قصة علي بن الجهم المشهورة مع الخليفة العباسي المتوكل عندما مدحه في قصيدة مطلعها "أنت كالكلب في حفاظك للود" فكان من ذكاء الخليفة أن جعله يعيش في دار على نهر دجلة وبعد مدة من الزمن اتسعت مدارك عقله وعرف أن العالم أوسع كثيرا من البادية التي كان يعيش فيها وبزر اثر الحضارة عليه فقال قصيدة أخرى من عيون الشعر العربي يقول في مطلعها " عيون المها بين الرصافة والجسر / جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري!" فمن غير الكلب والتيس أجلكم الله إلى المها والهوى؟ تأثير الحضارة عليه بلا شك. وحين عدت تاريخيا للأمم التي سادت العالم وأضافت للعلم وجدتها أمم متحضرة في وسط عالم جاهل! وكما ذكرت في بداية المقال أنا لست معنيا بشرح مفاهيم الحضارة هنا إنما تأثيرها على الانسان.

عند عودتي للكويت وجدت أن هناك هوة حضارية كبيرة لا أستطيع ردمها الفكرة ذكرها أحمد الزيات في كتابه تاريخ الأدب العربي في الباب الخامس ما نصه " غزا نابليون مصر سنة ١٧٩٨...{كانت} الجماعة العلمية التي صحبت هذا القائد العظيم لم تصدها القلاقل والحرب عن غرس بذور الحضارة في مصر، فأنشأوت مدرستين وجريدتين ومسرحا للتمثيل ومجمعا علميا ومطبعة ومعامل كيميائية ومراصد فلكية، وسهلوا للناس النظر إليها ...واستطاع الناس أن ينظروا ؛ ولكن ماذا رأوا؟ رأوا أنهم في القرن التاسع عشر، وأن الغرب واقف منهم موقف الإنسان العاقل من الحيوان الأعجم يرميهم بنظرات السخرية وهو دائب في سبيل الحياة الصحيحة، مجد في تذليل المادة، فبهتوا ودهشوا"

لن اكذب إن قلت أنني وجدت وصفه ينطبق علينا حتى بعد دخولنا للقرن الحادي والعشرين! ووجدت أيضا تحليلة لنظرة الغرب صحيح فلازلت وسأستمر انصدم عند حضوري للمؤتمرات الغربية الخاصة بتاريخ الخليج من طريقة تحليل الغربيين لنا! وكأننا من كوكب آخر مختلف عن كوكبهم. لكن عندما يتدخل العقل في الأمر تجد أن من يلام نحن وليس هم! نعم فنحن علي الإمكانيات التي عندنا خصوصا في دول الخليج لم نصنع سوى المباني والمظاهر التي لا تأتي بخير على العقل ولا تصنع حضارة حقيقية. ولك في أن تتأمل لأي مؤتمر علمي يقام في التخصصات المختلفه كيف أن السجاد الأحمر والبوفيه والتصوير مقدم على الفكر والنقاش العلمي بل بعض المؤتمرات خصوصا في التخصصات الإنسانية مواضيعها لا تخدم العقل البشري بل في بعض الأحيان تكون معارضة للمنطق والعقل والحضاره!

نعود لفكرة المقال الأساسية وهي هل التركيز على اخطاء المجتمع وانتقادها أمر سلبي؟ أم هو وسيلة من وسائل التنبيه وتعليق الجرس على رقبة المشكلة؟ هل السلبية تكون في رؤية الخلل والسكوت عنه أم في الحديث عنه واظهاره للغير؟ بالنسبة لي وجدت أن تكرار ذكر شوقي للعودة لاكستر يضايق بعض الأحباب والأصحاب ، ولذا تجدهم يقولون من يسمع نحيبك على اكستر يخيل إليه أنك من مواليدها. والحقيقة أنني ولدت في اكستر من جديد فعقلي تطور كما اظن عند استقراري فيها بل اجد أن عقول ابنائي تطورت كذلك هناك. هل الشوق لاكستر يعني الملل وعدم الوفاء للوطن؟ بالطبع لا فالكويت على سبيل المثال من الناحية الاجتماعية ونواحى أخرى عديدة أفضل بمراحل من الغرب وهو أمر محمود بلا شك لكن ليس هذا ما أطمح إليه في حياتي ولذا وجوده يسعدني لكن عدم وجوده لن يسبب لي مشكله. الجانب الفكري والعقلي والبيئة العلمية هي ما اهتم به جدا وقد حاولت ، حتى لا يصفني أحد بالسلبية ، أن أكون بيئة علمية خاصة نجتمع من خلالها لتبادل الأفكار وقراءة الكتب والنقاش العلمي لكني وجدت معظم الرفقاء قد انشغلوا في حياتهم الخاصة وفي التدريس ولم يعد لديهم الوقت الكافي لمثل هذه الأنشطة. 

هذا تحديدا ما افتقده في الكويت عدم وجود جهد مؤسساتي قائم على تطوير الفكر العلمي والبحث والمجتمع ثقافيا لازال في بداية التطور ولذا من الصعب أن تطلب منه الكثير ، والحق يقال أن وجود مجموعات القراءة وغيرها من مظاهر الثقافة في الكويت مشجعة لكن نحتاج أيضا أن نطور وسائل التفكير وأدوات البحث والرأي والرأي الآخر وغيرها من الوسائل التي تساعد علي النهوض الحضاري. أعتقد أن قضية وجود القراءة فقط لا تصنع مجتمعا متحضرا لكنها تفصل بين المجتمعات المتخلفه وشبه المتخلفه! فالقراءة لوحدها (قد) تطور فكر أشخاص بعينهم لكنها لن تقود لنهضة حضارية إذ لا بد من تمازج الأدوات البحثية وخلق بيئة للنقاش العلمي وتطوير مناهج التعليم لنستطيع نقل العقول من الجمود أو الجمود الجزئي إلى الحياة. ولعلنا نلاحظ في حياتنا أن هناك فارق بين المتعلم وحامل الشهادة فليس كل حامل شهادة من الثانوي إلى الدكتوراه متعلم! والعكس صحيح. المتعلم يكون قادرا على التحاور والتفكير وهمه في الغالب البحث عن الحقائق وإن كانت نسبيه وليس استعراض العضلات في الإعلام أو في شبكات التواصل الإجتماعية. المتعلم الذي كلما قابلته وجدت فيه تغير وتطور ورجوع عن آراء وتوسع في آراء أخرى أما الدارس فلا يكاد ينفك من تكرار انجاز قام به قبل عشرات السنوات ربما كرسالة للدكتوراه أو بحث كتبه ووفق فيه وهذا ظاهر عند بعض من نسميه مفكرين وأساتذه الجامعة في الكويت على الأقل!



فقد البيئة العلمية الصحيحة وغياب التحضر السلوكي وضعف القوانين ودخول السياسة في كل الأمور وعدم وجود تحفيز للمبدعين كل هذه الأمور سبب في تخلفنا وحنين من هم مثلي لدول العالم الأول! وعلى ذكر المبدعين ألا تلاحظون أن معظم المبدعين في مجتمعنا من صغار السن؟ السؤال ماذا يحدث لهم بعد عشر سنوات لماذا لا نسمع بمزيد من ابداعهم هل غاب الاعلام عن تغطيه ابداعهم أم مات الابداع بسبب الإحباط والبيئة الطارده؟ تساؤلات مشروعة لا أعرف لها جوابا!

سأستمر بالحنين لاكستر وسأستغل أول فرصة تتاح لي للعودة إليها ليس كرها في بلدي ووطني حاشا لله لكن لعدم ايماني أن الحل سيكون قريبا في بلد أعشق ترابه وسأكون أول من يساهم في تطويره إن وجدت الإراده والبيئة المناسبة لكن أن نعيش على تفاؤل غير واقعي أو أمل لا يكاد يصح أن نطلق عليه أمل فهذا مما يدمر الإنسان ذاتيا ويقتله علميا ويبعده عن انسانيته! وهنا دعوة لأصحاب القرار من سياسيين والوزاء ومدراء وغيرهم ابتعدوا عنا واتركوا المجال لمن يريد التطوير والتعليم والحضاره! أعلم أن آخر جملة تصنف من الجمل العاطفيه لكنها يجب أن تقال حتى لا ننسى فسادهم!

شوارد:

“استبقاكَ من عاتبك، وزهد فيك من استهان بسيئاتك“ ابن حزم الأندلسي









هناك 4 تعليقات:

  1. المقالة هذه المرة بها من الالم والمرارة الكثير. وهو الموضوع الذي اتعمد ان اتجاهله احيانا واخفيه احيانا اخرى خلف تنهيدة عميقة لاخبئ غصة في القلب. الوجع والالم الكبيرين ان اللحاق بالركب ليس بالقريب ولا حتى بالبعيد اذا استمر الحال على ما هو عليه! نعم في كل مكان وفي كل مجتمع يوجد الكثير من السلبيات ولكنها لا تعنيني ولا تؤلمني بقدر ما يعنيني ويؤلمني ما في وطني الذي انتسب اليه. "وكلنا في الهم شرق بيننا وطن ودين"!!
    وعلى العادة كتابتك رغم ما تحمله من الوجع تبقى رائعه في تحليلها وجليلة في سردها..
    فتح الله عليك، استمر...

    ردحذف
  2. لا بأس من بعض الحنين ، لا بأس من نقد أنين
    فلعلها العلة المرجوة لسلوك الدرب الأمين ورؤيته عين اليقين.

    ردحذف
  3. الحل في المواجهة المنظمة (الموجهة)، اي تكافل الجهود من المتعلمين والأكاديميين العرب، ليس في الكويت فقط وإنما في كل جزء من الوطن الكبير، الحال عندي نفسه، لا تفارقني الحسرة وانا هنا في اكسيتير على ما ينتظرني، اليوم كنت في هذا الحديث مع نفسي، وفِي كل يوم، واليد لا تصفق الى مع الاخرى، ولا إيقاع الا بالجمع المنسجم.
    يجب ان 'نتطبع' بمسالة القيادة وتوزيع الأدوار، وتحمل المسوؤلية تجاه الأجيال القادمة، وباقي المفاهيم في رزمة التغيير. لا شيء مستحيل مع كل بداية صحيحة، ولا جدوى من الدوران في الدائرة المفرغة.
    لست أديبا ولا فيلسوف، ولربما لغتي تعاني، ولكنني اؤمن بان من غير مستنقعات سنغافورة في عشر سنين يمكن ان يغير بلدان بحال أفضل بكثير مثل الكويت، المطلوب معرفة نقطة البداية والهدف المقصود بواقعية واصرار. وتركيا اكبر مثال.
    لله درك ابا محمد

    ردحذف
  4. احييك على ما قدمت
    فعلا...

    نحن بحاجة لضمير حي واع يجوب كل ماهو حكومي
    ولذات الضمير ليجوب قلوبنا وشوارعنا

    تحب بلدك
    احبها
    شنو قدمت لها

    .....

    جدا جدا جدا اعجبني ما قدمت

    كن بخير

    تراب

    ردحذف

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...