في كل يوم تقريبا من شهر مارس الماضي كنت أمشي في حرم
جامعة اكستر لمدة ساعة تقريبا مع أحد الأصدقاء المتميزين في حياتهم فهو طبيب وطالب
دكتوراه في العلوم السياسية ولعل هذا يكفي القارئ لمعرفة مدى طموح الرجل ومثابرته.
حديثي في هذا المقال ليس عن صديقي إنما عن حوار بيني وبينه بخصوص ميولي ناحية
الاعتزال وعدم الاختلاط في المجتمع الأكاديمي الموجود في الجامعة. هو محق فيما
قاله إلا أنه ينظر من زاوية تختلف عن زاويتي التي أشاهد منها الواقع وقد أكون
مخطئا!
سوف ألخص لكم وجهة نظر هذا الصديق وبعدها أبين رأيي فيها
وفي نظرتي لمتلازمة العمق والقراءة والظهور! فكرته تتمحور في ثلاث نقاط رئيسية،
النقطة الأولى هو على الباحث والعالم مخالطة الناس لأن أفكاره بهذا الشكل تنتشر
بشكل أوسع. أما النقطة الثانية فهو يركز على أهمية بناء شبكة علمية من خلال
الاختلاط بالمجموعات العلمية المختلفه في المؤتمرات والندوات العلمية وغيرها. أما
نقطته الأخيره فهي الكتابه والنشر بشكل مستمر لأن الأفكار تطور بعضها فعدم النشر
بشكل مستمر يقتل الموهبة أو هكذا أنا فهمت!
هذه النقاط بلا شك هي غاية في الأهمية وهي نقاط واقعية
لمن عاش حياة الأكاديميا في الغرب وفي الشرق أيضا. أقصد بالأكاديميا هنا عزيزي
القارئ الأوساط العلمية في الجامعات وغيرها أما ما يحب بعضهم تسميتها ب"أوساط
النخبة!" وأنا أحب أن أسميها أوساط الكثير من الفخفخه والقليل من النفاق.
الأفكار التي طرحها الدكتور جميله ولكنها بالنسبة لي ولغيري وسائل أكثر من كونها
مبادئ والوسائل من الممكن أن تتنوع وتختلف وفيها سعة كبيره في التطوير والاقصاء
والتعديل.
مخالطة الناس أمر محمود ومذموم في الوقت ذاته ولعل في
عقليتنا العربية خلط كبير بين مبادئ الدين الاجتماعية والعلم. فغالبنا حفظ حديث
النبي صلى الله عليه وسلم "المؤمن يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من
المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" أو كما قال عليه الصلاة
والسلام. ولست في مقام لا تفسير الحديث ولا حتى الحديث حوله فأنا لست طالب علم
شرعي وليس لي في هذا المجال ناقة ولا جمل لكنني أوضح سبب اختلاط مخالطة الناس في
عقول بعض الباحثين في فنون غير شرعية. اختلاط عالم الدين أو طالب العلم الشرعي مع
الناس مفهوم بسبب تنويره لهم دينيا أو تعليمهم أمور دنياهم وهو عمل عظيم بلا شك
لكن ما فائدة حديث المتخصص في تاريخ الشرق الأدنى القديم أو فنون حقبة الثورة
الفرنسية أو فلسفة سقراط أو ربما خصائص المفردات في اللغة العربية مع العوام الذين
لا يفهمون ما يقول؟ إذا كان يقصد صديقي مخالطة أهل التخصص فهذا أمر مختلف وسأعبر
عن رأيي في قادم السطور. لكن نشر الأفكار التي تستعصي على الفهم عند العوام بحجة
نشرها خطأ من وجهة نظري ولنا في التنظير للكثير من الأمور عبره فالناس تذهب حيث
تشعر بالاطمئنان وكم من بطل فكري لعدة سنوات انقلب إلى شيطان رجيم بعد ذلك لأن
الناس لهم القشور وأنا مع تنظيم محاضرات تخصصية في مجالات معينه أو تسجيل فيديوهات
وطرحها للجميع لأنه لن يطلع عليها إلا المهتم والراغب في تطوير فكره في مجال معين.
النقطة الثانية في بناء شبكة علمية فهذا أمر لا يختلف
اثنان على أهميته في مجال النشر العلمي اليوم والتأثير في الأوساط الأكاديمية
العربية والغربية فلم يعد يخفى على أحد أهمية العلاقات وتسويق الذات للأخرين حتى
تكون قادرا على نشر مقال في مجلة علمية محكمة محترمة أو قبول ورقتك في مؤتمر علمي
له قيمة في تخصصك. اعتراضي على صديقي في أن يكون همي وهدفي بناء هذه العلاقات وقد
حدثني أحدهم وكان قد حضر مؤتمرا له قيمة في تخصصه والقى ورقة كذلك أن كلماتك تجلب
المهتمين لك فالوسط الأكاديمي يميز بين من يتحدث لأجل الحديث وقد حشد النصوص فقط
وبين من يتكلم منطلقا من علم وبينة وفهم. نعم أقر وأعترف أن جودتك العلمية لا تكفي
لتأسيس علاقات والبروز بشكل سريع في مجالك العلمي لكن جودتك بلا شك سوف تجبر
الأخرين على رؤيتك ولو بعد حين فكما قيل "من كانت بدايته محرقة كانت نهايته
مشرقة". ولعل الموازنه بين هذا وذاك اذا تيسرت خيرٌ من الاندفاع في تكوين
علاقات علمية فهذا الاندفاع سوف يعطيك كباحث اسما قد يكون كبيرا لكن لن يعطيك
القوة العلمية الكافية خصوصا أن الباحثين يعلمون أن القاء ورقة في المؤتمر أمر
أسهل بكثير من كتابة مقال علمي محكم أو فصل في كتاب فالورقة لا تحتاج سوى عدة أيام
من العمل لكن النشر يحتاج شهورا من الجهد والعرق!
نصل للنقطة الجوهرية في هذا المقال وهو النشر بشكل مستمر والمقصود بالنشر هنا هو
النشر العلمي وليس كتابة مقالات صحفية أو شبه علمية ، وهنا أنا اعترض بشكل كبير
ففلسفتي في الكتابة تتمحور على أن الأفكار الشاملة عبارة عن مراحل واضحة ولذلك أنا
مع النشر بعد اجتياز كل مرحلة رئيسية من مراحل الفكرة. فالاستعجال في النشر قد
يقود لموت الفكرة سريعا خصوصا إن سيطرت على عقلك ففي التاريخ مثلا اذا سيطرت
الفكرة على عقل المؤرخ فإنها قد تدفعه للاستناد على أدلة ضعيفة لا تليق بالفكرة
ولا تعمقها أو ربما تحجب عنه رؤية زوايا أخرى قد تطور فكرته وتجعلها فريدة عميقة.
تكرار النقاش أو الأفكار وتطويرها بشكل جزئي على أهميته إلا أنه يفترض ألا يكون
هدف الباحث ، فالإسهام المحدود على أهميته لا ينقل الفكر الانساني لمراحل متطوره
لكن تحدي الأفكار السائدة في الأوساط العلمية من الوسائل التي تعين على تطوير
الحقول العلمية وأنا اقول هنا تحدي الأفكار لا نقضها والفارق بينهما شاسع! اذا كيف
نتحدى هذه الأفكار ؟ وكيف نعمقها؟ لم أجد حتى الآن على الأقل سوى طريقة واحده
القراءة ثم القراءة ثم القراءة ثم مناقشة أهل التخصص. والقراءة هنا يجب أن تكون في
كل ما يمس الحقل الذي تعمل فيه سواء كان هذا الارتباط بطريقة كبيره أو صغيره عميقة
أو سطحية قديمة أو حديثة لا يهم ذلك بقدر ما يهم أن القراءة ستوسع عليك مدارك
وسترشدك إلى أمور غفل عنها من سبقك أو فراغات علمية سقطت سهوا في السابق وربما
أخطاء وتدليس ارتكبت عمدا للتضليل.
لا أستطيع التوسع بشكل أكبر فهناك أفكار كثيره تشغلني
وأنا اكتب هذه السطور مثل المنهجية التي سيعتمد عليها الانسان أو ربما ارتباط علم
النفس بهذه الأفكار وغيرها من الافكار التي مرت وأنا أكتب! أعدك يا صديقي أن أكتب
مذكراتي وأفكاري بشكل دائم لكني لا أعدك بنشرها!
شوارد:
العلم صيد والكتابة قيده / قيد صيودك بالحبال الواثقة
تنسب للشافعي
للمرة الاولى انظر للامر من بعدة الثاني، فلطالما كانت الحياة الاكادميه بالنسبة لي هكذا لانها يجب ان تكون هكذا..
ردحذفمقال رائع كالعاده..
الموازنة بيت العلاقات الاكادمية والانتاج العلمي مهم جدا..
سلمت يداك! دمت رائعا..
شكرا لك دكتوره على تعليقك واسهامك وقد ارجعتي الحياة للتعليقات في المدونه
ردحذفاتفق معاك دكتور خاصة بالنقطة الثانية ومن خلال تجربة شخصية ، معاناة من عدم وجود شبكة علمية في محيطنا الجغرافي والاضطرار للسفر للاطلاع والاستفادة من جودة الغرب العلمية. مقال مفيد جدا سأحتفظ فيه مطولا.
ردحذفالصديق العزيز مساعد
ردحذففعلا ضعف البيئة العلمية عندنا رغم الامكانيات المادية والعقلية الكبيرة الموجوده أمر محزن! لكن في ذات الوقت ومن تجربة هناك من يرغب في خلق مثل هذه البيئة إلا أن جهدهم فردي بعكس العالم المتحضر يكون الجهد مؤسساتي ومخطط له
لك التقدير