تمتمات دنياي
أتجول في مدينتي ، أسامر رطوبتها الساحلية
المنعشة ، أهرب من واقعي إلى شاطئ البحر الجميل الهادئ ، أجلس على الرمل الأصفر
الممتد على طول الساحل ، أراهُ بساطاً من ذهب تنعكس عليه أشعه الشمس فيكون
كالسلاسل الذهبية التي أحاطت بعنق البحر ، أذهب إلى صخرة بعيدة نائية قرب الشاطئ ،
لِمَ أقصدها يا ترى ، هل لارتفاعها سبب في انجذابي نحوها ، أم أنه حب التميز حيث
أن الجميع يلهو بالرمل الذهبي وأنا أريد أن أكون مميزاً عنهم؟! أهو تميز أم غرور
لست أدري!
أقصد الصخرة فأرتقي فوقها فلعلي أجد
جواباً لحيرتي ، أنا أقصدها لأنني من خلالها أرى الشاطئ كله ، أرى الأطفال يتحد
بعضهم مع بعض ، أيهم الذي يركض ويسبق الأمواج ، وبعد التعب يجلسون و يتساءلون : لماذا
يسبقنا الموج دائما؟! على الصخرة أسمع أصوات طيور النورس تغرد بنبراتها العالية ، أنصت
لها فأسرح في جمالها وطبيعة حياتها ، هذا حالي عندما أقصد الشاطئ وارتقي الصخرة ...
لكني اليوم وأنا جالس على كرسي الكبرياء
، كما يراني البعض عليه ، رأيت أمراً لم أشاهده رغم وجوده منذ قِدم وربما قبل أن أولد
، رأيت البيوت الأثرية خلف الشارع ، بيوتاً طينية لها سور عال يستر من يعيش
بداخلها ، وأبوابها خشبية لم تخترق سترها عوامل الدهر الطبيعية ، بيوتاً بها رائحة
الذكريات وعبق الماضي ، نزلت من الصخرة وقطعت الشارع قاصداً تلك البيوت .. تجولت
فيها فأحسست بسعادة كبيرة ، توقفت عند مدرسة الحي ، نظرت إليها طويلاً فوجدت نفسي
أغوص في خيالي فأرجع عشرات السنين ، أسمع الضوضاء وصراخ التلاميذ في المدرسة ، أرفع
رأسي فأرى لوحة المدرسة معلقة وقد نقش عليها " مدرسة الحياة " ، استأذنت
من حارسها للدخول ، وكان رجلاً كبير السن ذا لحية بيضاء تزيد من هيبته .. أدخل المدرسة
وأبحث في فصولها وكلما حاولت فتح باب أحد الفصول وجدته مغلقاً إغلاقاً محكماً.
أصعد إلى الدور الثاني ، هكذا يسمى الدور
الثاني و ما هو إلا بضع درجات وضعت على سلم متهرئ قديم والأحرى أن يسموه الدور
العلوي ، صعدت إليه فوجدت فصلاً قد فتح بابه ، هرولت إليه خوفاً من أن يغلق ، وصلت
إليه فإذا فيه رجل هو بالشكل أنا وفي السن أنا وفي الهيئة أنا ، إذاً فهذا الشاب
هو أنا! دخلت مُسلِماً فرد وعليك سلام الله ورحمته وبركاته ، أهلا بك يا أنا ، أهلا
بعبد الرحمن، كنت أنتظر زيارتك هذه منذ مده طويلة تفضل بالجلوس، جلست والذهول
مسيطر علي والتعجب يقيدني ، اقترب مني وجلس بقربي وحمل معه آلة عرض وبدأ بتركيب الآلة
، وبعد دقائق ظهر عنوان على الشاشة "ماذا علمتني دنياي؟!" تعجبت أفي هذا
العصر تملكون هذه الآلات المتطورة ؟! تبسم ولم يرد علي ، وأجابني قائلاً : انظر
للفلم ودقق في آخره فقد تعبت كثيراً في إنتاجه وسهرت كثيراً وطويلاً وخاصمت الرقاد
من أجل إظهاره بهذه الصورة .
بدأت الآلة تعرض جهد الرجل ، وتوالت
سيرة حياتي تظهر على اللوحة وأنا تارة أبتسم وتارة يزور الدمع عيني ، وبينما أنا
في اندماجي صاح بي الجالس بقربي : هنا دوّن ما ستراه هنا ، أخرجت قلمي ودونت يدي
دونما أشعر عنوانا "هكذا علمتني دنياي" :
علمتني دنياي أن فقد من نحب أمر محتوم
وشر لا بد منه ، ولكن لنخرج بذكريات جميلة تجمعنا زاياهم ، ضحكات وابتسامات ، دموع
وآهات ، خدمات ومساعدات ، كنز كلما فتحناه وجدنا من فقدنا بقربنا وكأنه يجلس
بجانبنا ، ننظر لصورهم فنراهم بقربنا ، ونتصفح بعض رسائلهم وكتاباتهم فكأننا
نحاورهم، فليحرص كل واحد منا أن يأخذ ذكرى أو ذكريات ممن يحب حتى إذا فقده وجد من
آثاره ما يصبرهُ على فراقه ويذكره بأحلى أيامه معه.
وعلمتني دنياي أيضاً أن الطموح إن لم
يوجد في النفس فتلك نفس ميتة هامدة جامدة ، أعان الله صاحبها عليها ، وإن وجد
الطموح وشعرنا بعدم الرغبة في مواصلة المشي في طريق النجاح فهذا لا يعني أبداً أن
نار الهمة قد فقدت حرارتها ، ولكنه يعني أن رياح الكسل والتشاؤم قد هبت فوق نيران
الطموح فأبردت لهيبها قليلاً.
وتعلمت من دنياي أن المرء الناجح دائماً
ما يُسخر من أفكاره ومبادئه ، لأن من حوله لا يستشعرون قيمة ما يطرحه عليهم ، فإما
يتجاهلونه ويسفهونه ، وإما يحبطون من عزائمه ويحاولون تقطيع حبال صبره وجلده حتى يسقط
من جانب الجبل إلى وادي البلادة واللامبالاة، وإما أن يجد فئة قليلة تشد من أزره
وتناصره ولكن أعدادهم قليلة وأصواتهم ضعيفة لا تعلو على صوت المحبطين و نحن فقط من
يسمعها.
وعلمتني دنياي أن المال مهم وضروري
ولكنه ليس الأساس الأول في الحياة ، فكم ممن يملكون المال يبخلون به على من يحبون
بسبب خوفهم من ضياعه وعدم اقتناعهم بصرفه ، فالمال الموجود لدى أحدنا هو بمثابة
كنوز قارون لأنه متى ما اقتنعنا بما عندنا سرّنا ما سيأتينا على قلته.
علمتني دنياي أيضاً أن الله عظيم برحمته
، حليم بعفوه ، كريم برزقه ، فلا تحصر حياتك في ذنب اقترفته أو إثم اكتسبته بل
سارع بالتوبة وكن على ثقة بأن الله لن ينساك.
ودرست في مدرسة دنياي أن همومنا وأحزاننا
تسيّر في الغالب حياتنا ، وقد نحاول التغلب عليها بالحلم والصبر ورؤية المواقف
بالصورة الإيجابية ، ولكننا نفشل لأننا ربطنا نجاحنا بتقبل الطرف الآخر لنا؟!
وتعلمت من دنياي أنه في أحايين كثيرة
تكمن المشكلة فيمن حولنا لا في أنفسنا الطموحة ، وهذه الظروف ليس لنا عليها إرادة
ولا يمكننا تغييرها ، ولكن يجب أن نعيي أنه ليس من أراد لك الخير فأخطأ كمن أراد
لك الشر فأصاب! فلنعط كل ذي حق حقه ولنمض في طريقنا.
علمتني الحياة أيضاً أن العسر يتبعه
اليسر ، وأن لكل ضيق فرجاً ، ولكل همٍ مخرجاً ، وأن العسر يمكننا أن نحوله إلى أمر
نستفيد منه ونطور من خلاله الأخطاء الموجودة فينا .
رأيت في دنياي مواقف كثيرة أقنعتني أن
مجتمعاتنا العربية مجتمعات في غالبها تتخذ من حوار الطرشان أساساً في الحوار ، فقل
أنت ما تريد وسأقول أنا ما أريد وليفعل كل واحد منا ما يشاء وما يريد.
علمتني دنياي أن الحياة بها أبواب كثيرة
لا تحصى ، ولكننا نغلق أعيننا عن تلك الأبواب أملاً في فتح الباب الذي نقف أمامه!!
علمتني دنياي أموراً كثيرة لو جلست
أعددها ما فرغت أبداً ، ولن تستطيع المقالة حملها .
طويت الأوراق التي سجلت بها ما تعلمته
من دنياي ، ووجدت نفسي جالساً أمام باب المدرسة التراثية أتأمل سورها ومبناها ، ولسان
حال من يمر أمامي وينظر إلى يقول : اللهم اشف هذا المجنون فأي جمال في هذا الطين؟!
وليتهم يعرفون أني كنت أدرس داخل هذه المدرسة الطينية ، فشكراً لمن بنى المدرسة ، وشكرا
للصخرة التي دلتني عليها ، وشكرا لأنا التي تشبهني.
دمتم أذكياء تفيدون مما تقدمه لكم مدارس
دنياكم.
ومني لكل من يعيش في دنياه..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق