الأحد، 23 يناير 2011

الغرباء








عندما كنا صغاراً أكثر ما يطربنا بحكم البيئة المحافظة التي عشنا فيها أنشودة غرباء ، كأن على رؤوسنا الطير حال سماعها ، لعل عذوبة صوت المنشد أعطتنا هذا الإحساس لم نفهم كلماتها لكننا استوعبنا فكرة الأنشودة التي تتمحور حول أنك إن تمسكت بمبادئك الدينية فأنت غريب!.

كبرنا والأنشودة محتفظةٌ بمكان خاص في قلبي لكِنَّ عقلي يرفض فكرتها التي فهمناها سابقاً ، فالغربة لم تعد غربة الدين فقط ، ولم تعد تقتصر الغربة على مغادرة الوطن والبعد عن الأصحاب ، الغربة يا سادة هي غربة المكان والزمان نكون بين أهلنا وأحبابنا وتحتوينا أوطاننا لكننا لا نزال غرباء لأن الغربة معنوية لا ترتبط بالسجون والمطارات فكم من غريب يعيش في منزله وكم من مغترب يسكن وطنه .

نرى أنفسنا غرباء في مواطن عديدة خلال اليوم تبدأ الغربة حالما تصحوا من النوم،تغادر البيت متجها إلى عملك تركب السيارة وبلا شعور تربط حزام الأمان وتغادر ، جرب عند وقوفك في الزحام أو الإشارة كم غريب مثلك عنده احترام للقانون واقتناع بفلسفة حزام الأمان كم إنسان يربط الحزام إن شاهد رجل المرور وينزعه نزعا بعد أن يمر بجانبه ، حتى أن البعض لا يتورع أن يصفك بالجبان الخائف لأنك تربط الحزام فهو ما زال يعتقد أن الخيل هي وسيلة التنقل !

هل غربة الشارع تنتهي عند حدود حزام الأمان؟ بالطبع لا ، كثيرون منا يجمعون مخلفاتهم الورقية في أكياس مخصصة لها داخل مركباتهم ، وآخرون يعتقدون أن الشارع هو كيسهم الكبير ، وعندما تصحح لهم المعلومة إما بنصح مباشر أو بإماطة لأذاهم عن الطريق ضحكوا وردوا عليك بسخرية ولماذا نحافظ على النظافة هل تريدنا أن نقطع رزق عمال النظافة! .

في الشارع أيضاً تلتزم بالسرعة القانونية ولا تمشي على حارة الموت ومع ذلك تسمع أصوات أبواق السيارات وتُنعتُ بأنك شاب بعقلية عجوز لأن لا تتجاوز السرعة القانونية.

تصل إلى مقر عملك الحكومي أو الخاص في الوقت المناسب تجلس على مكتبك متحفزا لإستقبال المراجعين تبتسم لهم تنجز معاملاتهم ، يأتي زميل لك فيسألك هل تعرف كل هؤلاء! إذا لماذا تنجز معاملاتهم بهذه السرعه! ، لأنك غريب فلن ترد فعنده وعند الكثيرين مثله المراجع العادي يصعد المبنى مستلقا بحبل معتمدا على نفسه والمراجع الذي يأتي من طرف فلان كمن يركب المصعد ، أما فلان نفسه فسرعة انجاز معاملته بسرعة الضوء.
خلال جلوسك على مكتبك تأتيك اتصالات فتقول "أهلا وسهلا... سعدت بك.... سوف أنجازها في الوقت المحدد ....أعذرني معاملتك مخالفه لا استطيع تمريرها ...أهلا بك واعذرني على عدم انجازها" .
تقوم بهذا كله لأنك محافظ على مبادئك وغريب ، خلال حديثك في الهاتف يظهر انسان بالقرب من مكتبك تومئ له برأسك وشفاتك مبتسمه وتطلب منه الجلوس بنظرة ، تعتذر منه بعد اغلاق الهاتف بأنك كنت على الهاتف! كل هذا لأنك غريب ، يأتيك نفس الزميل فيقول لك لا أدري لماذا تعامله هذه المعامله فقد كان عندي وعندما طلبت منه الحضور غدا لأخذ التوقيع غضب مني! واتجه إليك لا أدري لماذا يحبونك الناس حتى وهم لا يعرفونك ، الأمر غريب!.

يأتي إليك عامل النظافة تهش بوجهه باسما تطلب منه الدعاء لك إن كان مسلما تكرمه بدراهم معدودة لا تمثل أهمية لك تجد السعادة في عينيه وكل الأمنيات بأن تكون أنت الوزير والمدير كل هذا لأنك عاملته بأخلاق الغريب .

تتصل على المطعم لتطلب تكلمه ب"لوسمحت ... إذا كان ذلك ممكناً.... بعد إذنك..... إذا تكرمت .... شكرا لك وبإنتظارك" ، فيأتيك الطلب وعليه توصيه وتدفع نفس السعر والجرسون مبتسم كل هذا حصل لأنك غريب.
يناقشك أحدهم فيتعصب لرأيه وتتعصب أنت لرأيك يعطيك الحجة فترد عليه بحجة يحاول اقناعك فتأبى أن تقتنع ، يتحول النقاش إلى جدال عقيم وصراخ بين الصم تنسحب بعد أن ترى أن لا فائدة ترجى يصِفكَ الطرف الآخر بالضعيف وقليل الحيلة والرجل الورقي ، وعندما تسكت وتبتسم من بعيد تكون أخلاق الغرباء معك.
والمواقف كثيرة جدا وقد يقول قائل أحب أن أكون غريباً لكن الآخرين سيستغلون غربتي وطيبتي وحسن خلقي ، وبعدها سأكون ساذجا أحمقا في نظر الكثيرين فكيف لي أن أكون غريبا دون أن أستغل؟.

السؤال لا يكون هكذا بل هل سأكون غريبا لأنني أريد من الآخرين أن يعاملوني بطريقة معينة أم أنا غريب لأنني أسير على القانون والطريق الصحيح وأوسع ما استطعت مدارك عقلي ، وهل الغربة مدعاةٌ للسذاجة بالطبع لا أن تكون نظاميا وقانونيا هذا لا يعني أنك غبي بل متغابي تعرف أن ما تفعله هو الصحيح في وسط أكوام من الخطأ لكنك تسود القوم بفعلك ويهابك الجميع لحسن خلقك ولا يتجاوزك أحد لأنك قانوني فالجميع إن لم يحترمك فإنه يخاف منك.

الغربة شعور واقتناع وعمل فالغريب متميز عن أقرانه بالسلام على من لا يعرف والإبتسامة للجميع والشعور بأن جميع الناس أخوته ، الغريب هو ذاك الرائع الذي يدرك أن التغيير لن يحصل فجأة يفهم أن القوانين جامدة مادامت على الورق ويعرف أنه بإلتزامه فيها يصورها على شكل بشر ، الغريب هو من يقرأ ويطلع ويتأمل وبعدها يعمل ولن يكون غريبا ما لم يحسُ بأنه في عالمنا الثالث محارب فالناجحون محاربون في عالمنا والممنوعات والخطوط الحمراء كثيرة في مجتمعاتنا والغريب الذكي من يسيّر هذه العقبات لصالحه ، هل تريدون أن تعرفوا الغريب من أول نظرة ! ما عليك إلا أن تخلقوا مشكلة وستجدونه أول من يعلق الجرس.

طوبى للغرباء الأحرار في دنيا العبيد ، وأكثر ما يفرحني في هذه الأيام أنني أرى الغرباء في ازدياد.

هناك 3 تعليقات:

  1. الغرباء هم الذين يصلحون إذا فسد الناس، أو يصلحون ما أفسد الناس.. هم الممسكون بمبادئهم كالقابض على الجمر.. وهم المستوحشون من قلة السالكين على طريق الحق.

    نحن كأمةعربية، غادرنا الحضارة أو غادرتنا منذ عقود أو قرون، والحضارة كما أفهمها ثقافة فكرية وسلوك أخلاقي ورقي روحي قبل أن تكون إنجازات مادية أو بنايات عمرانية..

    مقالك أعجبني كثيراً، فهو إنساني بدرجة عالية، يلامس شغاف القلب ورقائق الروح.

    ردحذف
  2. الكريم كنزي عجزي

    الغربة لا يشعر بها الا مغترب وانت غريب متغرب ولهذا لامس المقال شغاف القلب فتغلغل للوجدان.

    نحن أمة تفتقر الى الثقافة قبل أن تفتقر للعلم وقبل هذا وذاك صرنا نفتقر للمبادئ عند الكثير من الساسة والقادة

    بما اننا في سنة الثورات ما احوجنا لثورة الغرباء عندها إما أن يندمج الغافلون مع الغرباء او تؤسس دولة تحتويهم:)

    ردحذف
  3. الغرباءهم فئة قليلة ...
    وهم غرباء بالنسبة لغيرهم لأنهم ملتزمون بالقوانين وما يمليه عليهم دينهم وضميرهم ... ولو كان نسبة الغرباء في مجتمعاتنا كبيرة لكانت مجتمعاتنا متقدمه بفضل الله وابنائها المتمسكين بأخلاق دينهم...

    ردحذف

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...