نشر في
https://www.jadaliyya.com/Details/43263/%D9%87%D9%84-%D9%8A%D8%B3%D8%AA%D8%B7%D9%8A%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%B1%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D9%8A%D8%AC%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%83%D9%8A%D8%B1
من سنوات عديدة رمى حميد دباشي حجرًا حرك المياه الراكدة من خلال مقاله في موقع «الجزيرة» بعنوان "هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟" ومنذ ذلك الحين أخذ بعض غير الأوروبيين هذا العنوان وأسقطوه على أمتنا العربية في محاولة للاستفادة منه أو الرد عليه ولم أكن بدعًا في ذلك. بعد سنوات عديدة وخبرة في عالم الأكاديميا الغربية وجامعاتها وجدت أنه من المهم مناقشة فكرة هذا المقال بشكل أوسع من خلال تحريك المياه الراكدة وطرح هذا الموضوع على القارئ العربي والخليجي وباللغة العربية!
أظن أن هذا المقال ذا صلة بالدراسات والأكاديميا في الخليج المتعلقة بالتاريخ بشكل خاص حيث أنها تواجه تحديات كبيرة جدًّا ومعقدة ومن المهم أن نناقشها في ظل فكرة حميد دباشي، خاصة أن التحديات التي تواجه الدراسات التاريخية الخليجية بشكلها العام واضحة المعالم من خلال تتبع القوانين والأنظمة السياسية في دول الخليج مرورًا بالمجتمعات الخليجية التي تعاني من مشاكل في التعليم والعمل وأمور الحياة الأخرى بصورة متفاوتة حسب قوانين كل دولة خليجية. هذا لا يعني أن الاختلافات أكثر من المتشابهات لكن يعني أن هناك خصوصية في بعض الأحيان لكل دولة تتعلق بطبيعة النظام السياسي وقوانينه.
للباحثين غير الخليجيين اليد الطولى بما يخص تاريخ الخليج، خصوصًا ذلك المكتوب باللغة الإنجليزية. وهنا أتكلم بالدرجة الأولى عن الأوروبيين والأميركيين على وجه التحديد مع الإقرار بالإسهام لغير المنتمين لهذه البقع الجغرافية في تاريخ الخليج. "العالم الأكاديمي الغربي" وأعني به الجامعات والمعاهد ومراكز الأبحاث في أوروبا وأميركا على وجه التحديد فيها مزايا كبيرة تتعلق في تطبيق المناهج وطرق البحث وكذلك العمق في التحليل إذا ما قورن بما تقدمه الجامعات الخليجية والعربية. المقصود بالمزايا الأكاديمية هنا هو ما تطرحه هذه المؤسسات والجامعات وما يطرحه الباحثون من مواد تعليمية في طرق ومناهج وفلسفة التاريخ والتي تتطور مع مرور السنين من خلال النقاش الذي يدور في حقل دراسات مناهج التاريخ وكذلك التشجيع على المشاريع البحثية والعلمية مع إمكانية الحصول على دعم مادي لها. هذه المزايا تطوّر الباحث والمؤسسة البحثية في ذات الوقت وتوسّع مدارك الباحث عندما يحاول الخروج عن الإطار البحثي العام، وخصوصًا في النقد أو في محاولة بناء أطر تحليلية جديدة للتاريخ الخليجي خارج الإطار الغربي المتداول والذي تبنى عليه الأبحاث، خصوصًا تلك المنشورة باللغة الإنجليزية. هناك دلائل سوف نتطرق لها خلال المقال تُثبت تهميش الباحثين الخليجيين، خصوصًا من يكتب تاريخ المنطقة ويحاول سبر أغوار هذا التاريخ والزيادة عليه باللغة العربية.
من المهم إيضاح نقطتين هامتين هنا: الأولى أن النقد لا يعني التقليل من الجهود المبذولة والتي لا تزال تبذل من الباحثين الغربيين في دراسة تاريخ المنطقة والبناء عليه في الدراسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. كما أن المقال لا يدعو لتفضيل المؤرخ الخليجي على غيره، ولا يزعم أن المؤرخ الخليجي أفضل من الآخر سواء كان عربيًّا أو غربيًّا، لأن العرق والانتماء الجغرافي والقومية ليست من أسس الكتابة العلمية. لكن المقال يحاول أن يسلط الضوء على زاوية مظلمة في العمل الأكاديمي الخاص بتاريخ الخليج ألا وهي تهميش الباحثين الخليجيين.
دراسات تاريخ الخليج والاحتكار الغربي
الجهود المبذولة في حفظ وكتابة التاريخ الخليجي، خصوصًا في النصف الثاني من القرن العشرين للكتاب العرب والغربيين واضحة ومقدرة ولها تأثير فيما يُكتب إلى اليوم. هذه الكتابات باللغتين العربية، والإنجليزية بشكل خاص، ساهمت في إثراء الحقل الأكاديمي لدراسات الخليج بشكل عام[1]. لكن في ذات الوقت أوجدت كتابات بمنهجية غربية سنتحدث عنها لاحقًا بأقلام غربية وعربية وجهت بطريقة أو بأخرى التاريخ الخليجي وطريقة البحث فيه.
من هنا ظهر جيل ناقد من المؤرخين وعلماء الاجتماع الخليجيين الذين حاولوا تغيير الإطار التحليلي الذي رافق نشر الكتب التي ناقشت تاريخ الخليج في بدايات القرن العشرين وقبله في الكتابات العربية والغربية. هذه الكتابات والتي منها كتب الرحلات للرحالة الأوروبيين كُتبت بطريقة استشراقية جعلت من الدول والإمارات الخليجية قرى أو صحراء أظهرها النفط على السطح وجعلها ذات قيمة. هذه السطحية في التحليل التاريخي والتي سلبت الثقافة والسياسة وغيرها من الجوانب التاريخية في فترة ما قبل النفط جعلت كاتبًا مثل محمد الرميحي يكتب كتابًا كردة فعل عنوانه "الخليج ليس نفطًا" يذكر في مقدمة الطبعة الأولى "الخليج ليس نفطًا، فهو إنسان وأرض قبل النفط وسيظل كذلك بعد النفط. والنفط في تاريخ الخليج ما هو إلا مرحلة من المراحل التاريخية التي مر ويمر بها هذا الجزء من الوطن العربي. ويبدو أنه من أقصر المراحل التاريخية". أما في الطبعة الثانية فيقول: ".. ولم يكن اختيار العنوان لأول مرة إلا نموذجًا للاحتجاج العلني على التجاهل الطويل للإنسان العربي في الخليج بحد ذاته كإنسان وبإنجازاته"[2]. ثم تلاه محمد جابر الأنصاري في كتابه «لمحات من تاريخ الخليج» وكذلك كتابات علي خليفة الكواري وعبدالله العثيمين وخلدون النقيب الذي كتب وانتقد في كتبه العديدة ومن أشهرها "المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية" إذ يقول في تمهيده للكتاب "ولكن الأنظمة الحاكمة في منطقة الجزيرة العربية عُرفت تاريخيًّا بالخوف المفرط من النقد المتأتي من البحث الموضوعي.."[3]. في إشارة إلى أن هذه الأنظمة وضعت حُجبًا أمام الباحثين الخليجيين لمنعهم من البحث الموضوعي النقدي الذي يطور حقل دراسات تاريخ الخليج ومن هنا كان للباحثين الغربيين التميز علينا أو بشكل أدق كانت للكتابة باللغة الإنجليزية اليد الطولى في حال رغب الباحث في النقد بشكل موضوعي.
الكتابات الغربية في الثلث الأخير من القرن العشرين كان لديها مشكلة منهجية تتعلق بتأصيل المصطلح التاريخي والبناء عليه فيما يتعلق بالكتابات التاريخية الخاصة في الخليج والعالم العربي، خصوصًا في التاريخ الاجتماعي. نستطيع أن نقول إن الكتابات الغربية احتكرت أو فرضت بصورة غير مباشرة مناهجها ونظرياتها ومصطلحاتها. هذا الفرض غير المباشر يتأتى من جهتين: الدارسون الخليجيون الذين تعلموا على يد الغربيين، وكذلك فاعلية ونجاح هذه المناهج والمصطلحات والنظريات في حقول تاريخية أخرى جعلتهم يفترضون نجاعتها على الساحة الخليجية. المتوافق حضاريًّا هو متوافق علميًّا وبالتالي يرى بعض العرب أن نحذو حذو هذا المتوافق. من هنا أوجد الباحثون الغربيون ومن يكتب على نمطهم من العرب فجوة في مصطلحات الدراسات التاريخية بين التاريخ الغربي من جهة وتاريخ الخليج أو التاريخ العربي من جهة أخرى. ولتوضيح هذه النقطة، أثناء مناقشة استخدام مفهوم "النظام الإقطاعي (feudalism)" ومدى ملاءمته للتاريخ الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي، يرى محمد جابر الأنصاري أن هناك اختلافًا بين طريقة تعامل مجتمعات العالم العربي مع مفهوم النظام الإقطاعي، من حيث خصائصه التاريخية والوظيفية الأساسية، وطريقة تعامل المجتمعات الأوروبية مع المفهوم ذاته. على سبيل المثال، من حيث الطبيعة الجغرافية للمنطقة، هناك اختلافات جوهرية بين الإقطاع في أوروبا والعالم العربي. كانت المجتمعات العربية، بسبب المساحات الجغرافية الفارغة الشاسعة والامتدادات الصحراوية بين المراكز الحضرية، في حاجة ماسة للتواصل. ومن وجهة نظر تاريخية، يرى محمد جابر الأنصاري، أن الفكرة القائلة بأن العالم العربي والإسلامي قد عاش في ظل النظام الإقطاعي قبل العصر الحديث تستند إلى النظرة الماركسية للعالم، والتي تم تبنيها في دراسة وتحليل التاريخ الاجتماعي للمنطقة. ولا تزال هذه المشكلة موجودة حتى اليوم من خلال استخدام مصطلحات مثل البرجوازيين ومحاولة الربط بين سلطة الكنيسة وسلطة الدين في الخليج والطبقة المتوسطة والحداثة والبراغماتية وغيرها يكون أساسها المصطلح الغربي للكلمة دون وضع اعتبار للسياق التاريخي العربي الخليجي أو تأصيل المصطلح انطلاقًا من اللغة العربية ذاتها في حال وجوده فيها. ليس هناك أي مانع من استخدام هذه المصطلحات في حال موافقتها للسياق التاريخي الذي يراد تحليله وكذلك وجود هذا المصطلح بين الفاعلين التاريخيين في تلك الأحداث. أما استخدام المصطلحات لمجرد وجودها في الأدبيات الغربية دون تأطير حقيقي لها وإسقاط فعلي على التاريخ الخليجي تحديدًا هو المشكلة.
من المشاكل التي سببها الاحتكار الغربي للتاريخ الخليجي هو تأسيس حكومات الخليج لمراكز أبحاث ومنتديات وكذلك منح دراسية في الغرب يُبنى عليها في الكثير من الأحيان تحليل المنطقة. بعض هذه المراكز تُمول بالكامل من قبل الدول الخليجية ويترك لهذه المراكز هامش من الحرية البحثية لكن في وجود خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها. كما أن الكثير من المنتمين لهذه المراكز يتم استخدامهم في حال وجود خلاف بين دول الخليج للتأثير على الرأي العام الغربي ومراكز صنع القرار. مثل هذه المراكز لا تستقطب الباحثين -الخليجيين على وجه الخصوص- الذين يرغبون في الكتابة خارج الإطار الرسمي والمتفق عليه ولذا تجد من ينتمي لهذه المؤسسات يكون خطه السياسي والأيديولوجي واضح المعالم للمتابع المهتم. هذه المراكز أخرجت لنا ما يُسمى بـ"خبراء الخليج" من الغربيين وأهل الخليج وهؤلاء يكون تركيزهم سياسيًّا أو اقتصاديًّا بالدرجة الأولى ويعممون نتائجهم على الخليج بشكله الجغرافي. ناهيك عن مشكلة مصطلح الخليج؟ هل يجب أن يضم العراق وإيران واليمن مساواة بالحجاز وعسير وعمان؟ هذه المراكز والمؤسسات التعليمية تقع في إشكاليات تتضح عند النشر العلمي أو في المؤتمرات التي تنظمها عندما يكون العنوان عن الخليج ودراساته والمضمون يتعلق بدولة أو دولتين.
هذه النقطة تقود إلى نقطة أخرى وبينهما توافق واتصال وهي قضية الشبكات البحثية (networking) والتي تساعد الباحث في نشر كتاباته وقد تساعده هذه العلاقات حتى على نشر أبحاثه في مجلات علمية لها سمعتها الأكاديمية. الشبكات البحثية في المراكز والجامعات تعتمد بشكل أساسي على العلاقات الشخصية و التعاون البحثي من خلال البناء على أبحاث المجموعة المنتمي إليها الباحث وفي الآونة المدح والإطراء في وسائل التواصل الاجتماعي. هذه السلسلة من الحلقات المتصلة تتيح للباحث فرصة النشر العلمي ودخول مشاريع بحثية دون اعتبار حقيقي لقدرته البحثية أو الإلمام بموضوع البحث لكن ميزة الانضمام للشبكية البحثية تعطي الباحث في الكثير من الأحيان ما لا يستحق من مجد علمي.
قصور المؤرخ الخليجي ومكامن الخلل
الإنتاج الغربي للتاريخ الخليجي يقابله قصور من المؤرخين في الخليج بشكل عام. بعض جوانب هذا القصور لها اتصال وثيق بشخصية الباحث الخليجي والبحث عن المجد الاجتماعي بشكل عام وبعضها الآخر متعلق بقصور وخلل في المنظومة التعليمية والعواقب السياسية. مكامن الخلل جعلت الكثير ممن يكتب التاريخ الخليجي بطريقة أكاديمية أسيرًا للمنظومة الغربية متبعًا لنظامها وتقاليدها حتى يكون جزءًا من المنظومة ويدخل كعضو فاعل في الشبكات البحثية. من المهم التأكيد هنا أنني أتطرق لمكامن الخلل ولا أنفي وجود بعض الباحثين الخليجيين الذين لهم إسهام ومحاولة في تقليل الفجوات بين الواقع والحلم في وجود أكاديميا خليجية تنافس الغرب ولذا وجب التنبيه.
الكتابات الغربية في الثلث الأخير من القرن العشرين كان لديها مشكلة منهجية تتعلق بتأصيل المصطلح التاريخي والبناء عليه فيما يتعلق بالكتابات التاريخية الخاصة في الخليج والعالم العربي، خصوصًا في التاريخ الاجتماعي.
يُشكل ضعف فهم المناهج التاريخية أحد أهم العوائق في المنظومة التعليمية في الخليج العربي إذ إن كتابة التاريخ الحديث للخليج تغلب عليها السردية والوصفية التي تلامس فقط سطح الأحداث ولا تربط بينها ولا تحلل بالرغم من إشارة الكثيرين من الكتاب للمنهج المستخدم في الكتابة. من خلال اطلاعي -وهو قاصر بلا شك- على الكثير من الأبحاث التي كُتبت باللغة العربية وجدت أن الكثير منها ليس له ملامح منهجية واضحة. ليس القصد هنا أن يكتب الباحث ما هو المنهج الذي بنى عليه بحثه في المقدمة لكن الهدف وجود منهج واضح بإمكان الناقد رؤية وبناء نقده عليه. هذا الضعف كذلك تجده في بعض رسائل الماجستير والدكتوراه التي تناقش في بعض الجامعات الخليجية، فالطالب وإن كتب ما هو المنهج التاريخي الذي يتبعه في رسالته إلا أنه في الغالب لا يناقشه بشكل عميق بل ينقل من بعض الكتب ما يسميه منهجًا ثم لا يطبقه في الرسالة في الكثير من الأحيان.
ولأن الاهتمام في المناهج ضعيف في جامعاتنا الخليجية تجد أن المواد المقررة على طلبة التاريخ هي مواد طرق بحث بمعنى كيف يُكتب الهامش والفارق بين المرجع والمصدر وغيرها من الأمور المهمة لطلبة مرحلة البكالوريوس لكنها لا تكفي، فطرق الكتابة أمر والمناهج أمر مختلف. في جامعة الكويت على سبيل المثال مادة فلسفة التاريخ ليست من ضمن اختصاصات قسم التاريخ، وإنما يتولاها قسم الفلسفة. وهذا ليس عيبًا بلا شك لكنه قصور إذ إن مادة واحدة غير كافية ليفهم الطالب الأسس الصحيحة للتاريخ وفلسفته. أنا أحد خريجي قسم التاريخ في جامعة الكويت منذ ما يزيد عن عشرين سنة وعانيت كثيرًا في فهم واستيعاب أهمية المناهج التاريخية وفلسفة التاريخ عندما بدأت رحلة الدراسات العليا لأنني لم أحصل على التأسيس الصحيح خلال فترة دراستي للمرحلة الجامعية. ولا تزال هذه المشكلة موجودة فبناءً على الخطة الدراسية لقسم التاريخ 2017 نجد أن مادة "منهج البحث التاريخي" فقط مادة إلزامية بينما نجد مواد أخرى مثل "الفلسفات السياسية" و"الفلسفات الشرقية" وكذلك "بيولوجيا الإنسان" و"الكيمياء لغير الكيميائيين" وغيرها مواد من ضمن المواد المقترحة في الخطة الدراسية. هذا الأمر لا ينطبق فقط على جامعة الكويت بل يكاد يكون أمرًا مشتركًا بين معظم الجامعات الخليجية من عمان إلى الكويت. فمثلًا في عمان وبناءً على الخطة الدراسية لدفعة 2010 وما بعدها في قسم التاريخ[4] هناك مادة اسمها "التفكير العلمي وحل المشكلات" وهي خاصة في قسم الفلسفة ومادة لمنهج البحث التاريخي وكذلك مادة وثائق ونصوص.
من خلال الحديث مع بعض الأساتذة في أقسام التاريخ في بعض جامعات الخليج وجدت أن بعضهم يتذمر من أن مادة مناهج البحث هي ليست مادة مناهج بقدر ما هي تعليم الطلبة على الفوارق بين المصادر والمراجع وطريقة توثيق هذه المصادر في الهوامش وبعض المعلومات العامة جدًّا. منهج البحث وأدوات البحث وفلسفة البحث كلها غائبة في الخطط الدراسية للجامعات في الخليج وهذا بالضرورة ينعكس على جودة الأبحاث العلمية المحكمة التي يكتبها بعض الأساتذة وكذلك على رسائل الماجستير والدكتوراه والتي ينقصها الاستطراد في مسألة منهج البحث.
على الباحث مثلًا أن يحدد مفهومه للبحث في التاريخ: هل التاريخ والحادثة التاريخية هي معرفة حقيقية وحدثت في الماضي أو أن التاريخ والحادثة التاريخية حدثت وحدوثها يعتمد على فهم الناس لما حدث؟ ما هو الأساس الفلسفي الذي ينطلق منه الباحث عند كتابته لموضوع بحثه؟ ما هو منهج البحث وفي حال وجود ضرورة للمقابلات مثلًا في التاريخ الحديث والمعاصر ما هي عينة البحث؟ كيف رتب لهذه المقابلات وهل قارنها مثلا بالوثائق والكتب؟ وكيف تم اختيار عينة البحث؟ وما هو العدد الكافي ولماذا كان هذا العدد؟ وما هي الأدوات التي استخدمها الباحث في المقابلات؟ وماهي الأسئلة التي طُرحت؟
أما إذا استخدم الوثائق والنصوص فما هي الأدوات التي استخدمها الباحث لفهم النصوص؟ كيف حلل الباحث هذه النصوص؟ كيف تم بناء النتيجة؟ ما هي الخطوات التي اعتمد عليها الباحث من الحصول على الوثيقة إلى تحليلها؟ ماهي حدود البحث والنواقص الموجودة؟ وما هي الاعتبارات الأخلاقية في البحث؟ هل هناك خطورة قد يتعرض لها الباحث عند نشر البحث، مثل فصله من وظيفته أو ضرر لنفسه؟ وكذلك أن البحث لا يضر الآخرين وليس هناك إفشاء لأسرار الغير فالاعتبارات الأخلاقية لك كباحث وللأطراف الأخرى.
كل ما سبق يكاد يكون غير واضح في رسائل الماجستير والدكتوراه الصادرة من الجامعات الخليجية. فتجد أن الطالب مثلًا يذكر أنه استخدم المنهج الوصفي أو التحليلي أو الاستردادي دون أن يوضح كيف ولماذا؟ وهذه المشكلة لا تتعلق بالطالب بل الأساس فيها المؤسسة التعليمية وأعضاء هيئة التدريس والطالب هو متلق ومتعلم في نهاية الأمر.
هذا الضعف المنهجي عند الطلبة وبعض أعضاء هيئة التدريس في أقسام التاريخ قد يكون من أسبابه ضعف حركة الترجمة في العالم العربي لكتب المدارس التاريخية وكتب المناهج التاريخية وفلسفة التاريخ. هناك بلا شك تميز عند المؤرخين المصريين ومؤرخي المغرب العربي بشكل عام لكن الباحث الأكاديمي حين يحتاج لسبر فكرة يواجه صعوبة إذا لم يكن يتقن لغة غربية، خصوصًا الإنجليزية والفرنسية والألمانية فيما يتعلق بالتاريخ وفلسفته ومناهجه. هذه الضحالة في الفهم تقود إلى مشكلة أخرى وهي الاعتماد على ما يقدمه الغربيون لنا من استخدام لهذه المصطلحات وعلينا البناء على ما قاموا بكتابته وفهمه. هذه الإشكالية تُنتج في أحيان كثيرة قراءة تاريخية مشوهة للخليج بل هناك مصطلحات مثل البرجوازية والإقطاعيات وغيرها إسقاطها على الخليج بشكل خاص فيه ضعف منهجي كبير. لعل الباحث الخليجي يتحرر من سطوة المصطلحات الغربية ويتعامل معها بما يتوافق مع المادة التاريخية المتوفرة بين يديه. الجملة السابقة لا تدعو للانفكاك عن المصطلحات الغربية، فالعلم ليس له عرق أو قومية، لكنها دعوة للاجتهاد في التأطير للتاريخ الخليجي بما يتوافق مع السياق التاريخي وليس من أجل البناء على أفكار قد تُناسب ما نحاول كتابته ولعله من الأولى الرجوع للتاريخ الإسلامي الوسيط على وجه التحديد والبناء عليه في التحليل مع المقارنة والربط بين ذلك وبين المصطلحات الغربية إن كانت المقارنة والربط من الأمور المتاحة.
ما سبق يقود لمشكلة أخرى ومكمن آخر من مكامن القصور وهو ضعف الإنتاج الأكاديمي خصوصًا في الأبحاث المحكمة. فعلى سبيل المثال، ومن مقارنة بسيطة لما كُتب عن تاريخ الكويت ونُشر في مجلات جامعة الكويت، مثل «المجلة العربية للعلوم الإنسانية» و«مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية» نجد أن هناك في الأولى أكثر من ثمانية عشر مقالًا وفي الثانية اثنتا عشرة مقالة عن تاريخ الكويت باللغة العربية في الفترة الممتدة من 1971 حتى 2018. هذا العدد القليل من المقالات خلال الفترة الزمنية الطويلة في مجلات جامعة الكويت ربما يكون مؤشرًا لضعف الإنتاج العلمي في حقل دراسات تاريخ الكويت من المؤرخين الكويتيين أنفسهم. لا يوجد مقال من هذه المقالات يناقش تطور المناهج التاريخية وكيفية تطبيق هذه المناهج على دراسة تاريخ الكويت على الرغم من وجود بعض المقالات في المجلات التي ناقشت المناهج التاريخية في فترات زمنية أقدم مثل التاريخ الإسلامي[5]. قد يكون من الأسباب التي تدفع الباحثين -الكويتيين في هذه الحالة- لعدم التريث والكتابة في مواضيع منهجية تطور حقل دراسات تاريخ الكويت والخليج هو قضايا الترقية والرغبة في سرعة الوصول إليها ولذا فبدل كتابة بحث قد يستغرق من الباحث سنوات حتى ينشر ويكون إضافة حقيقية يلجأ البعض للكتابات الوصفية السردية دون منهجية واضحة ويضيف هذا النشر لسيرته الذاتية. من يراجع الأرشيف لمجلات جامعة الكويت يجد تشابهات وتقاطعات بين الأبحاث المنشورة فيها عن تاريخ الكويت وفي بعض الأحيان يجد أكثر من بحث يناقش ذات القضية مثلما نُشر بعد تحرير الكويت عن الغزو/العدوان العراقي عليها تجد ذلك في عام 1992 في المجلة العربية للعلوم الإنسانية.
من مكامن القصور عند المؤرخ الخليجي في كتابة التاريخ الحديث مسايرة المجتمع والسلطة في الكتابة التاريخية. فالعلاقات الاجتماعية وحساسية كتابة التاريخ الاجتماعي والسياسي من العوائق الرئيسية التي تُضعف المؤرخ الخليجي وتجعله يكرر نفسه في المجالات الاقتصادية والثقافية. هذا القصور تغلّب عليه بعض المؤرخين من خلال كتابته باللغة الإنجليزية، ربما لأن القارئ العربي من الصعب عليه الوصول لمثل هذه الكتابات لوجود حاجز في اللغة وكذلك البعض لا يريد دفع المال للحصول على المقالة أو الكتاب وكذلك صعوبة الحصول عليها بشكل مجاني. كذلك النقد بين الأكاديميين الخليجيين وتفعيل مساحة نقد الكتب في المجلات العلمية المحكمة تكاد تكون ضيقة لأن حساسية النقد وشخصنته لا تزال عالية بين الأكاديميين أنفسهم ولذا يفضل الكثيرون البقاء في مساحة الحرية الضيقة على المناكفة وبناء مساحة جديدة تغير الواقع. الجوائز والمناصب الحكومية كذلك لها تأثير كبير على بقاء بعض المؤرخين في المساحة الضيقة لأن الواقع يلزم المؤرخ ألا يتجاوز هذه المساحة حتى تكون فرصته في المنافسة على الجوائز والمناصب موجودة.
كيف ينهض المؤرخ الخليجي؟
قد يكون العمل الجماعي المؤسسي خارج الإطار الحكومي هو أحد أهم الخطوات التي تفك قيود المؤرخ الخليجي. هذا العمل الجماعي قد يكون موجودًا في إطار حكومي مثل جمعية التاريخ والآثار بدول مجلس التعاون الخليجي والتي من شروط الانضمام لعضويتها تزكية عضوين من أعضائها بعد تحقيق شروط الانضمام! العمل الجماعي المنشود هنا يكون خارج إطار القيود الأولية للتأسيس فمن بدائل الدعم المادي الحكومي هي الأوقاف والتي كان لها أثر في تطور العلم في التاريخ الإسلامي والخليجي على السواء. من مشكلات الكثير الجمعيات التاريخية في الخليج هو عدم وجود بحث حقيقي يتطور مع تطور السنوات ولك أن تتابع المؤتمرات السنوية التي تقام أو المنشورات التي تصدر لتدرك أن خط الكثير من هذه الجمعيات متوافق مع السياسات العامة للدولة وكأن هذه الجمعية جزء من المنظومة الحكومية وليست جمعية تعنى بالتاريخ وتطوره.
مثل هذا العمل المؤسسي خارج الإطار الحكومي يؤدي إلى النهوض بالكتابة التاريخية في الخليج بشكل عام من خلال فك الاحتكار للأرشيف المحلي والذي يكون في الغالب تحت إدارة المؤسسات الحكومية والتي تجعل من الصعب في الكثير من الأحيان على الباحث أن يحصل على ما يريد في حال عدم توافق البحث مع السياسات العامة لهذه المراكز. تحرير الأرشيف وإتاحته للباحثين بشكل أكثر سهولة من شأنه أن يعطي المؤرخ الخليجي وغير الخليجي مزيدًا من العمق في تحليله للأحداث التاريخية لكن يجب أن يترافق مع هذه الخطوة أمرين مهمين.
أولهما الانفكاك من عقدة الخواجة في البحث العلمي ونقد ما يتم إنتاجه في الغرب إذا كان الأمر يتطلب النقد والبناء والتعاون في الحالات الأخرى. هذا الانفكاك سيخلق مساحة أوسع للبحث العلمي في التاريخ ويكون الإنتاج الأكاديمي يحلل من زوايا جديدة خصوصا مع ظهور الوثائق المحلية المحتكرة أو إعادة قراءة الوثائق الموجودة وتحليلها من منظور مختلف.
كذلك يجب أن يترافق مع هذه الخطوات تشريع يحفظ للمؤرخ بشكل خاص والعلماء بشكل عام حريتهم في حال كتابة الأبحاث بشكل علمي منهجي أكاديمي. فالقوانين الحالية في الخليج لا تشجع على البحث العلمي خصوصًا في التاريخ الاجتماعي والسياسي. على سبيل المثال، أصدرت حكومتا الكويت والبحرين قوانين صارمة في بداية الألفية الجديدة. في عام 2002، أصدرت حكومة البحرين لوائحها الخاصة بالصحافة والطباعة والنشر، والتي تتعلق المادة 69 منها بالتحريض على الكراهية ضد قطاع أو قطاعات من الناس و/أو أي تحريض يؤدي إلى زعزعة الأمن العام أو نشر الفتنة في المجتمع والمساس بالوحدة الوطنية، دون تفصيل في ما هي هذه الأمور أو استثناء البحث العلمي منها. أما في الكويت، فالوضع أكثر صرامة: في عام 2011، أصدر البرلمان قانونًا يتعلق بـ"الوحدة الوطنية"، حيث تحظر المادة 2 أي شكل من أشكال التعبير الذي يدعو أو يحض، في الداخل أو الخارج، على كراهية أو ازدراء أي شريحة. للمجتمع. كما يحظر أي تحريض للإضرار بـ"الوحدة الوطنية" أو إثارة الفتنة الطائفية أو القبلية. نشر الأفكار التي تدعو إلى سيادة أي عرق أو جماعة أو لون أو أصل أو طائفة دينية أو جنس أو نسب، وأي محاولة لتبرير أو تعزيز أي شكل من أشكال الكراهية أو التمييز أو التحريض عليها يعاقب عليها القانون. والجدير بالذكر أن القانون يحظر أيضًا كتابة أو بث أو نشر مقالات أو "إشاعات كاذبة" قد تؤدي إلى التعدي على "الوحدة الوطنية".
في ظل هذا الإطار القانوني، يخاف الباحث من مناقشة التاريخ الاجتماعي للدولة فيما يتعلق مثلصا بتاريخ العبوديّة. إذ يعاقب القانون على ذكر أسماء عائلات العبيد المحررين وأحفادهم، بالإضافة إلى كونها حساسة للغاية اجتماعيًّا حتى عند تناولها أكاديميًّا وفي إطار العدالة الاجتماعية والإنصاف. وبالتالي، أصبح من الضروري الآن اجتماعيًّا وقانونيًّا في الكويت تجنب مناقشة مواضيع مختلفة، لا سيما باللغة العربية. وهذا يقيد حرية البحث العلمي الأكاديمي والذي ليس من شأنه التقليل من أحد وإنما مناقشة التاريخ بشكل منهجي. مواضيع أخرى حساسة اجتماعيًّا وقانونيًّا، بما في ذلك الانقسامات العرقية والتاريخية بين نسب أصيل وغير أصيل ومكانتها في المجتمع الكويتي قبل وبعد الاستقلال. هذه الموضوعات حساسة للغاية، حتى اليوم، ولا توجد استثناءات للأكاديميين والباحثين. ينطبق هذا بشكل خاص على المنح الدراسية العربية على الرغم من أن العديد من الأعمال المنشورة باللغة الإنجليزية تناولت هذه الموضوعات.
ومن الأمثلة على ذلك حالة شفيق الغبرا، أستاذ العلوم السياسية الكويتي في جامعة الكويت، الذي نشر كتاب «النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت» عن المركز العربي. تم تطوير هذا الكتاب من أطروحة الدكتوراه الخاصة به عام 1987 ونشر لاحقًا باللغة الإنجليزية في عام 2019. في كتابه، ناقش الغبرا، وهو كويتي من أصل فلسطيني، بشكل نقدي العنف الذي تعرض له الفلسطينيون في الكويت بعد تحرير البلاد من الاحتلال العراقي في 1991. في أعقاب هذه الإصدارات، اتَهم عضو سابق في مجلس الأمة الكويتي الغبرا ورفع دعوى قضائية عليه، بزعم إهانة الكويت وشعبها. ومع ذلك، تمت تبرئة الغبرا من هذه التهمة من قبل المحكمة. ومع ذلك، يُظهر هذا مدى حساسية الكتابات التاريخية في الكويت ودول الخليج الأخرى، والتي يُحتمل أن يُسجن مؤلفون بارزون.
يستطيع المؤرخ الخليجي التفكير حتى في ظل المعوقات الحالية ووجود مكامن الخلل لكن عليه أن يبدأ بشكل فعلي في مقاومة الواقع والبدء في تطوير مهاراته. على الأكاديميين والمثقفين في دول الخليج الانتفاض وخلق ربيع ثقافي جديد يطيح بمن يتحكم اليوم في مجالات الثقافة والعلم وهو بعيد عنها، وعلى مؤرخي الخليج الانفكاك من المسلمات التاريخية التي قيدتنا فترة طويلة، ويدل عليها تكرار المواضيع البحثية ذاتها في الرسائل والأبحاث والكتب.
لكن مما يبعث في النفس التفاؤل والأمل وجود نوع من أنواع التغيير على مستوى ضعيف في كتابات التاريخ الخليجي، نلمسه في مجموعة من الإصدارات والأبحاث المنشورة خلال السنوات العشر الأخيرة، لكن ظاهرة النقد العلمي العلني لا تزال خافتة على مستوى المؤرخين في الخليج، وأتمنى أن تنمو في الأيام والأعوام القادمة.
الهوامش
[1]: انظر مثلًا كتابات عائلة ديكسون الذي كان المقيم البريطاني في الكويت وكذلك كتابات فلبي عن المملكة العربية السعودية، وديغوري الذي كتب عن قبيلة عنزه وكان مقيماً سياسياً في الكويت في ثلاثينيات القرن الماضي.
[2]: الرميحي، محمد غانم. الخليج ليس نفطًا دراسة في إشكالية التنمية والوحدة. لبنان، دار الجديد. الطبعة الثانية.
[3]: النقيب. خلدون. المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية من منظور مختلف. لبنان. مركز دراسات الوحدة العربية. ط٣. ٢٠٠٨. ص١٤.
[4]: حاولت الاستفسار ما إذا كانت هناك خطة دراسية أحدث من ٢٠١٠ لكني لم أتمكن من الحصول على جواب.
[5]: راجع الأرشيف الذي نشرته مجلات جامعة الكويت المتخصصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية مثل المجلة العربية للعلوم الإنسانية ومجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية وحوليات الآداب والعلوم الاجتماعية وقد حصلت على نسخة منها وهي على CD وكانت توزع مجانًا في معرض الكتاب في الكويت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق