الأحد، 17 يونيو 2012

هل يُرثى الخالدون؟




دأب الناس على رثاء أمواتهم بأبيات شعرٍ تُخلد ذكراهم أو بمقالات يسطرون بها بعض حقوقهم وربما بإطارات صورٍ تعلق على جدران بيوتهم! ، الرثاء من تراث الإنسانية جمعاء فلا تكاد تمر علينا حضارة إلا ورثت ملوكها وكُبرائها فالفراعنة خلدوا ذكر أمواتهم بالأهرامات والرومان حفروا ذكريات موتاهم على أَحجار وأمة العرب رثت أحبابها بالأشعار.


للموت هيبه وللفناء روح تسري في هذا العالم فتُرجع للعقول وعيها وللضمائر حياتها ، وفاة الإنسان لا تعني نهايته بل هي بداية خلوده ، الخارجون من هذه الدنيا ثلاثة أصناف صنفٌ يخرج ولا يذكره أحد وآخر يموت فيحزن الناس لموته ثم ما يلبثون إلا أن يتركوا ذكراه وراء ظهورهم ، والنوع الأخير هو المفارق الخالد من يغادر جسده هذه الدنيا لكن روحه تحلق فيها ما دامت السموات والأرض.

من هؤلاء شيخ الفقهاء وفقيه الأدباء ودرةُ القرن العشرين وسيد الكتاب شيخنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله وغفر له فاليوم 18-6 ذكرى وفاته ، أعلم أن غالبكم لم يشعر بوفاته لأنه لا يزال يعيش بيننا في مكتباتنا وفي تويتر وعلى صفحات اليوتيوب وحتى في رسائل هواتفنا.

كيف يموت وهو من قال "إن المستقبل الحق في الآخره فأين مِنا من يعمل له؟ بل من يفكر فيه؟" عمل رحمه الله لهذا اليوم فجازاه الله برفع ذكره في هذه الدنيا ، علي الطنطاوي قصة عشق يفهمها كل محبٍ للأدب والفضيلة ، غالب من قرأ له قال سبحان من أعطاك قوة البيان وفصاحة اللسان وسلاسة البنان ، صور وخواطر شاهدٌ على هذا الإبداع فحينما تقرأه تستلقي تارةً على قفاك من شدة الضحك وأخرى تنساب دموعك من شدة تأثُرِك.

أدب الطنطاوي هو أدبٌ سينمائي فقد استطاع رحمه الله أن يصور بحروفه المشاهد أمامنا عنده قدرةُ عجيبة على التصوير فحينما تقرأ له تجد نفسك تنتقل من صفحات الكتاب إلى أماكن الأحداث ، حينما أقرأ لهأحس بأني أعيش معه وأشاهد دمشق من سفح قاسيون وأرى حي المهاجرين وأشرب من بردي وكم مره تنقلت معه بين أحياء دمشق ودول العالم فذهبت معه إلى بغداد ورحلنا سويه إلى اندونسيا وسافرنا إلى الحج وقطعنا المسافه بشق الأنفس ، ولما عدنا كانت صلاتنا في الجامع الأموي خلف محراب الحنابله ،لا زلت أحس بأنني من أهل دمشق لدرجه أنني حاورت أحد الدمشقيين فذهل مما قلت له وقال هل أنت بعمر جدي أم ماذا ؟!

الخالدون في هذه الدنيا كُثُر بعضهم خلدتهم جرائهم وآخرون معازفهم أما الطنطاوي رحمه الله فرُفع ذكره بجمال مبادئه وقوة أفكاره وثبات مواقفه هل سمعتموه حين قال "إن عمادي هذا القلم وإنه لغصن من أغصان الجنة لمن كان يستحقها وإنه لحطبةٌ مُشتعلة من حطب جهنم لمن كان من أهل جهنم" ، سبحان من أعطاك جمال البيان وفصاحة اللفظ.

وهل تحسبون أن الشيخ لا يجيد الحب والكتابة عنه؟ لا والله فهو من أعظم عشاق الحب الحلال فاسمعوا ماذا قال في الحب "الحب أحجية الوجود ليس في الناس من لم يعرف الحب وليس فيهم من عرف ما هو الحب! "


ثم أتبع هذه الفلسفة بكلام رقيق جميل حين قال " من حرَّم الكلام في الحب ؟ والله الذي أمال الزهرة حتى تكون الثمرة وعطف الحمامة على الحمامة حتى تنشأ البيضة و أدنى الجبل من الجبل حتى يولد الوادي ولوى الأرض في مسراها على الشمس حتى يتعاقب الليل والنهار هو الذي ربط بالحب القلب حتى يأتي الولد ولولا الحب ما التف الغصن على الغصن في الغابة النائية ولا عطف الظبي على الظبية في الكناس السعيد ولا حنا الجبل على الرابية الوادعة ولا أمد الينبوع الجدول الساعي نحو البحر ولولا الحب مابكى الغمام لجدب الأرض ولا ضحكت الأرض بزهر الربيع ولا كانت الحياة".


لا أنسى فضل صديق لي حينما دلني على بستان أدب الطنطاوي رحمه الله ، قلت له في بداية الأمر من هو علي الطنطاوي هذا ليكون له بستان البساتين للأدباء العظام فقط! والعظماء ماتوا منذ زمن فليس للأدب الحديث رجال!فأجابني بحكمة قائلاً : جرّبه ثم احكم ثم أهداني كتاب من حديث النفس أخذت الكتاب ووضعته على الرف زمناً طويلا ثم أمسكته في ليلة ولم أضعه من يدي إلا بعد أن أكملته! ويا سبحان الله صار أفضل مديح تلقيته من انسان مقدمة الدكتور محمد موسى الشريف لكتابي ترانيم قلب حين قال " وقد سلك في الكتاب مسلك الحديث مع النفس ومن خلال هذا المسلك حاول علاج مشكلات عديدة في السلوك وقد ذكرتني طريقته في بعض مسالكها بطريقة الشيخ الطنطاوي" فيا سبحان الله كيف صار عشقي لهذا الأديب كبيراً.

نعم لا يُرثى الخالدون لأنهم وإن فنيت أجسادهم فكلماتهم لا تموت وكيف تموت حروفٌ تصف لنا واقعنا كل يوم فها هو رحمه الله يشارك ثوار سوريا اليوم ثورتهم حين كتب يقول لهم "إن جبهةً معها الله لن تنكسر أبداً" ولم تقتصر مشاركته على الثوار فقط بل شارك الناس كلها وأخبرهم بسر اندماجهم مع كتاباته حين وصف ذلك بقوله "حين أتحدث عن نفسي أتحدث عن كل نفس وحين أصف شعوري وعواطفي أصف عواطف وشعور كل من كان في مثل حالي وشعوري ، كأستاذ التشريح لا يشق صدر كل حيوان من حيوانات المختبر بل يشق الصدر والصدرين ليرى الطلاب مكان القلب وحركته ويشرح لهم عمله ، لأن القلوب التي لم يروها لا تختلف عن القلب الذي شُق فرأوه، وهذا من عجائب قدرة الله ونظامه في خلقه إذ جعل الناس مختلفين وهم متشابهون! متشابهين وهم مختلفون!"

لن نريثك يا أريب فمثلك لا يموت مادامت صوره وخواطره بيننا وكيف ننساك وذكرياتك لا نمل سماعها ، أيموت من كان هتاف المجد صوته ورجال من التاريخ معه! كيف نترك للنسيان أن يأخذك بعيدا وحديث النفس لا يقوى أحد على ايقافه! ، أتدري ما هو الحل؟ أن لا يكون في الصباح بواكير وأن نتوقف عن ذكر سادتنا أبي بكر وعمر وتُمحى بغداد من الوجود وتغمر أندونيسيا المياه فلا يذكرها أحد ، ولو تم ذلك كله أتنساك دمشق! وجامع الأمويين أم تتوقف الرحلة إلى مكة ، لن ننساك لأن الإسلام باقي إلى قيام الساعة وأنت من كتبت بيمينك تعريف عامٌ بدين الإسلام.

أحسن شاعر الحجاز عبدالرحمن العشماوي حين قال في رثائك :

إليك منا زهوراً من محبتنا//و دعوة في ظلام الليل نزجيها

رحمك الله وجمعنا بك في جنات ونهر في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر


T: @alibrahem_a

هناك 7 تعليقات:

  1. طرحٌ جميل عن فضيلة الرائع شيخنا الطنطاوي /
    في البدايةَ كنتُ مثلك في معرض الكتاب حينَ عرض علي البائع كثيراً من كتب الشيخ الفضيل رحمه الله / لم أتجرأ أن أسأله من يكون على عكسك فأنت سألت صديقاً وليس بائعاً - حلولتُ أن أُبينَ له بأنني على معرفةٍ حقيقيةٍ بشيخنا الفضيل فاشتريتُ له كتاب روائع الطنطاوي وعجبتُ لما فيه من بلاغه وفصاحه وتشبيهات جميله ..
    فعلاً خالدٌ بيننا / خلدتهُ تلك الروائع التي ننهلُ منها ما يفيد جيلاً بعد جيل /


    إحترامي لك فحروفي لا شيء مقارنةً بما نسجتَ أنت من جمالٍ هنا
    فالشيخ الطنطاوي يستحقُ المزيد

    حفظك الله

    ردحذف
  2. اهلا بك اختي الكريمة

    الشيخ علي الطنطاوي تأسر حروفه القلوب فلا اكاد اعرف احداً قرأ له الا احب اسلوبه او افكاره وهذا مو فضل لله على الشيخ

    هذا المقال لتذكر رجلٍ له في حياتنا بصمه واحسان ظنك بما كتبت هو من نُبل خلقك فشكراً لك

    ردحذف
  3. رحم الله فقيه الأدباء وأديب الفقهاء اديب العربية الكيير علي الطنطاوي .. فهو أحد سادات العربية الكبار.. واحد دعاة الحق العظام.. ولك الشكر يا عبد الرحمن.. ولك مني الود ؛ فالطنطاوي يستحق وقفة من قلمك الفصيح.

    ردحذف
  4. ماشاءالله أخ عبدالرحمن .. كلماتك تسطر بشكل جميل جدا .. وفقك الله .. و بالفعل لقد انتابني الشعور الذي يذهب بي لأن أقرأ جميع ما تكنب بادية بهذة المقالة لأنتقل لجميع مقالاتك وكتبك .. و أخذني الشغف والفضول لأن أبدأ ايضا بكتابك ترانيم قلب .. و أدعو الله أن يجعلك من الكتاب البارزين محمودي السيرة والملامسين لكبد الحقيقة وهذا ما لمسته بالفعل .. حفظك الله وجعلك فخرا لعائلتك وأبنائك .. أختك مريم

    ردحذف
  5. اللهم امين شكراً للطفك وحسن ظنك بأخيك

    سعيد ان ماكتبته هنا راق لك

    مودتي

    ردحذف
  6. اللهم امين شكراً للطفك وحسن ظنك بأخيك

    سعيد ان ماكتبته هنا راق لك

    مودتي

    ردحذف
  7. مجاهد مأمون ديرانية5 أبريل 2013 في 10:31 م

    جزاك الله خيراً أيها الكريم. عرضت جمال بيان الشيخ بمقالة فيها الكثير من جمال البيان، فإنه لقلم جميل يكتب عن قلم جميل. وفقك الله وزادك من نعمه وفضله.

    ردحذف

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...