الخميس، 1 سبتمبر 2011

تمتمات عيدي



مقالة العيد من كتاب ترانيم قلب ص 63

كنت أسير في أحد الأروقة فإذا بي أجد مجلساً خالياً من الناس فجلست فيه لأستريح وأكمل المسير بعد ذلك ، وبينما أنا جالس في هذا المجلس إذ برجل عليه سمات الوقار يلبس العمامة وهيئته لا تدل على أنه من أهل هذا الزمان .. اقترب مني فإذا به يلقي السلام علي ويستأذن بالجلوس ، فعجبت من أمره : لم يستأذن وهذا مكان عام!! وارتفع عندي هرمون الفضول فسألته : من أنت ، ومن أي البلدان جئت ؟ فقال : أنا محمد بن جرير الطبري ، ألا تعرفني! فقلت : وكيف لا أعرفك فأنت شيخ المؤرخين صاحب كتاب " تاريخ الأمم والملوك" وهو من المراجع عندنا ، فما سبب زيارتكم لنا يا شيخ ؟

فقال : إنما زرتكم بهذا الزمان لأني لم أرض عن عيدكم ! وبما أنني مؤرخ وعشت الأحداث بروحي وإن لم أعشها بجسدي فقد رأيت العيد عندنا أفضل ، ألم تر كيف خرج المصطفى صلى الله عليه وسلم لفتح مكة في رمضان ، وكيف جيّش الجيوش وأعد العدة في رمضان ، ولم يكونوا يأبهون بأهوال البحار أو لطول الأسفار ، وعندما عسكر الجيش بقيادة النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم جاء أبو سفيان بن حرب ورأى ما رأى من عظمة الجيش فقال : سبحان الله ؟ ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، وطلب الأمان له وكان له ما أراد ، فأوصاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينادي بالناس : ( من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ) ، وسار الجيش وفتح مكة وكان لهم ما أرادوا ، وجعلوا عيدهم عيدين فكان الأول فتحهم لمكة والثاني عيد الفطر في المسجد الحرام .. وأنتم اليوم ما بال العيد عندكم ؟!

فراودتني أفكار ، أأقول له بأن الأعياد عندنا زادت فلم نعد نحس بعيد الفطر والأضحى ، أم أشرح له حال الأمة في زماننا ، وكيف تكالبت علينا الأمم ، أم أبادره بسؤال كسؤاله؟! فاستحسنت الأخيرة فبادرته بقولي : يا شيخ ما بال الأندلس ، لعلي قرأت بكتابك أخباراً عنها؟

فقال : وكيف لا ، ففي السنة الثانية والتسعين وبعدما استقرت المغرب لموسى بن النصير خرج مولاه طارق بن زياد إلى الأندلس في ليلتين بقيتا من رمضان ، دخل طارق للأندلس ولكن قبل ذلك مهد الطريق التي لم يكن بينهم وبينها إلا خليج يسير ، وكان ميناء سبتة هو أقرب المدن إليه ، وكان حاكمها هو الكونت يوليان الذي كان نائباً للإمبراطور البيزنطي لذريق حاكم طليطلة ، ولكنه تحرر من سلطان الدولة البيزنطية ، وأصبح كالحاكم المستقل في سبتة وما حولها ، بسبب أحقاد كانت بينهما ، وذلك أن لذريق اعتدى على عِرض ابنة يوليان بعد أن بعث بها إليه لتخدمه واستأمنه عليها . وقد استفاد موسى من هذه الخصومة وراسل يوليان حتى كسب وده ، وصار دليلاً لهم في تلك البلاد ، وكان ذلك في السنة الحادية والتسعين للهجرة ، وتوالت الانتصارات... ولسنا بصدد الحديث عنها ، وعندما جاء رمضان للسنة الثانية والتسعين كان المواجهة الكبرى بين لذريق الإمبراطور البيزنطي وبين جيوش المسلمين في معركة نهر لكه ، وكان للمسلمين النصر العظيم ففتحوا الأندلس رغم أن عيد الفطر قد حان وهم في القتال ، ولكن عيدهم أيضاً قد كان عيدين على منهاج نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فالأول عيد الفطر والثاني اتساع رقعه الدولة الإسلامية بفتح الأندلس .

ولكن لم تجبني أنت عن سؤالي : كيف حال عيدكم اليوم ؟!

فأصابتني ضيقة شديدة وهممت بالجواب ، فإذا بي أسمع أحدهم يسلم علينا فالتفت إليه فإذا هو رجل يشبه الإمام الطبري من حيث الهيئة واللهجة فقلت : حياك الله فمن أنت؟! فقال : ألم تعرفني وأنت من مرتادي هذا المكان ، فانتابني الحرج فقلت : لو عرفت بنفسك وكفيتني الحرج ، فقال وقد رأى على وجنتي احمرار الخجل : أنا إسماعيل بن عمر بن كثير ، فمن الشيخ الذي عندك ؟ فقلت : أما عرفته رعاك الله ، فقال : لا وقد اعتراه ما اعتراني من الخجل ، فقلت : هذا الإمام الطبري ، فقام فعانقه وقال : جزاك الله عنا خير الجزاء ، فقد حفظت لنا التاريخ ، وقد ساهم كتابك مساهمة كبيرة في مساعدتي على إتمام كتابي البداية والنهاية فجزاك الله عني وعن المسلمين خيراً ..

وجلسا يتبادلان أطراف الحديث ، وإذا بالإمام ابن كثير يسألني : كيف حال عيدكم أأنت مستعد له ولبهجته؟! فقلت في نفسي : وهل هذا السؤال مكتوب على جبيني ؟ لم يصرون على هذا السؤال ؟ فقلت : أجيبك شرط أن تذكر لي حال عيدكم ؟

فقال : عيدنا فيه الكثير من الانتصارات ، فقد كان زماننا زمان ريادة وعزة ، ولعلي أذكر لك حادثةً وقعت في العيد ، فبعد دخول المسلمين الأندلس سنه 92 انساح الجيش العرمرم المظفر يعلي كلمة الحق بفتحه المدن والديار داخل بلاد الأندلس ، وكان على رأس الجيش المجاهد الكبير عبد الرحمن الغافقي ، وعندما كان رمضان سنه 114 للهجرة سار الجيش حتى بلغ مكان يسمى بلغه الفرنجة بواتيه ودارت معركة عظيمة بين المسلمين والفرنجة خلدها التاريخ وسميت بمعركة بلاط الشهداء ، وبما أن المعركة لم تكن في صالح المسلمين لعلك تتساءل : لِمَ أذكرها لك ؟! أذكرها لك لكي تعلم ويعلم جيلك أنها سنة المغالبة والمدافعة ، فالغافقي وصحبه فازوا بعيدين أيضاً عيد التمكين للمسلمين بأرض الأندلس وعيد الشهادة وهي المبتغى والمنى ، ولعل العيد عندنا كان به العديد من الجولات والصولات فيأتينا عيد به هزائم ولكنا نفرح به لأنه شُرع للفرح ، وكذلك لإيماننا بأن ذلك مقدر ومكتوب علينا ، فقلت : ليتنا نحس ونعي ما كنت تعونه.

وبينما نحن جلوس إذ أقبل علينا رهط فحيونا ، فقلنا : من القوم ؟ فقال : شعراء من عصور مختلفة استرقنا السمع لحديثكم فشاقنا ، وأحببنا أن نشارككم فهلا سمحتم لنا ؟ فقلنا : لكم ما أردتم ، ولكن أسمعونا بعض قصائدكم في العيد , فتبسم الإمام ابن كثير وقال : وهل تتوقع عيد الشعراء كعيدنا !! فعيدهم دائماً ذو سواد لأن محبوبهم غير موجود فيه، فضحك القوم وقام أولهم قائلاً:

هنيئا لك العيد الذي أنت عيده * وعيد لكل من ضحى وعيدا
ولازالت الأعياد لبسك بعده * تسلم مخروقاً وتعطي مجددا
فذا اليوم في الأيام مثلك في الورى* كما كنت فيهم أوحداً كنا أوحدا

فقلت : أنت المتنبي ، ولقد أصاب منك سيف الدولة الشيء الكثير وأعطاك القليل ، فتأوه وسكت .

فقال آخر من القوم : اسمع ما عندي ، فقلت له : هات ، فقال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا * فجاءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة * في لبسهن رأيت الفقر مطمورا
معاشهن بعيد العز ممتهن * يغزلن للناس ما يملكن قطميرا

يا الله ! أهذا أنت يا معتمد ؟ أين عز الملوك ؟ أين بناتك اللاتي كن يسر على المسك والكافور ! سبحانك يا ملك الملوك ، وحدك الباقي وغيرك في زوال . وعلقت على حال المعتمد : لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك ولكن هذه الدنيا يوم لك ويوم عليك.

وبينما أنا أنظر إلى الوفود القادمة إذ بصوت نشاز يدخل بين الأصوات إنه حارس المكتبة المركزية يوقظني من حلم اليقظة الذي أنا به قائلاً : هنا مكان العلم لا النوم . وإذا بالأئمة والشعراء يختفون ولا يبقى أمامي إلا كتبهم ، فهم أحياء بيننا وإن فنيت أجسادهم ، فقلت له : ليتك كنت معي في حلمي لتعلم أني كنت أتعلم ، فهل وعيتم الدرس أيها القراء؟!

وكل عام وأنتم بخير ، وعيدكم مبارك كأعيادهم!!

هناك تعليق واحد:

  1. كل عام وأنت بخير .. حقيقةً لا أعلم أ أُهنيكَ على هذا الحلم الجميل .. فقد وجدتُ نفسي أعيشُ ذلك الحلم وأراكَ وأنتَ تُحاورهم وشعرتُ بمشاعر الحزن والخجل التي اعترتكَ كلما سألوكَ عن حالِ العيدِ في زماننا .. للأسف الشديد أصبحنا لا نُميزُ بين الأعيادِ والبدع هذهِ الأيام بسبب ضعفِ الإيمان في كثير من النفوس واقتدائهم بعادات وتقاليد من لا صلةَ لهم بديننا الإسلامي اعتقاداً منهم بأنهُ نوعٌ من الحضاره ..
    يعطيك العافيه ،،

    @hooriatalwadi

    ردحذف

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...