الفاشينيستا هي كلمة اخذناها من اللغة الإنجليزية وتعني الشخص الذي لديه قدرة على عدم المشي على الموضة التي يمشي عليها الناس من خلال شركات الملابس والعطور والأزياء وغيرها. ظهور مواقع التواصل الاجتماعي أظهر لنا مجموعات من هؤلاء الفشينيستات وصار لهم قوة وتأثير على حياة الكثيرين ممن يشاهدونهم وكذلك على توجيه رأيهم واختياراتهم في الحياة حتى أنه انتشرت في السنوات الأخيرة عبارة " لا تجعلوا من الحمقى مشاهير". لم يقتصر دور الفاشينيستا على مجال العطور والأزياء بل تعداها لمجالات كثيرة منها مجال التاريخ.
عندما نذكر في هذا المقال كلمة "الفاشينيستا" فإننا نعني كلا الجنسين الرجال والنساء الذين دخلوا مجال التاريخ وجعلوا منه موضة وعرضا للمعلومات بسطحية بمساعدة من يتابعهم وكذلك بعض وسائل الإعلام التي ترعاهم وتنميهم. هؤلاء الفاشينيستات في مجال التاريخ بعضهم حاصل على درجة الدكتوراه وبعضهم من أصحاب اللحى والتدين وبعضهم ممن يحارب التدين ويميل لليبرالية والعلمانية وآخرون عنصريون وغيرهم مناطقيون (نسبة إلى منطقة جغرافية معينه) ومعظمهم أصحاب أبحاث وكتب منشورة!
الفاشينيستات الذين رصدتهم وقد يكونون أكثر مما رصدت وشاهدت يشتركون في خمس صفات: (١) الحديث في كلِ شيء دون احترام لعقل المتلقي، (٢) محاولة البقاء تحت الأضواء مهما كلف الأمر، (٣) التحليل السطحي للأحداث، (٤) النشر والحديث لأجل العائد المادي أو الشهرة المؤقتة وأخيرا (٥) الانتصار للنفس مهما كان الدليل قويا!
عندما يتحدث الإنسان في أي مجلس حتى بين أولاده في كل شيء دون علمٍ راسخ وفهم جيد قد ينبهر به أولاده في المرة الأولى والعاشرة لكن بعد ذلك يسمعون ما يقول دون أن يأخذوا منه شيئاً لكن الاحترام والدين والعادات والتقاليد والأخلاق وغيرها من الأمور الحسنة تمنعهم من أن يمتنعوا عن السماع فما بالكم بشخص لا تمنع هذه الأمور الحسنة التوقف عن سماعه؟ الفاشينيستات في هذه النقطة من السهل اكتشافهم فتجده متخصصا في التاريخ الحديث مثلا، سواءً كان حاصلاً على شهادة عليا أو أنه قضى حياته يقرأ في هذا المجال حتى تشربه، لكن يتحدث في كل شيء في التاريخ. فعندما يكون الحديث حول التاريخ الإسلامي نجده ممسكا بمكبر الصوت متحدثا وفي الاكتشافات الأثرية الجديدة نجده يحلل تاريخ العظام وبقايا القِرب وفي حياته لم يدخل معملاً. هذا الفاشينيستا ذاته يتكلم في النظريات العلمية ويحللها تحليل الخبير ثم ينتقل للحديث عن تاريخ اللغة ونشأتها وبعدها يكون خبيراً في التاريخ الجغرافي والسياسي والاقتصادي وغيرها من فروع التاريخ المختلفة.
وما المانع أن يكون هناك شخص مطلع وعنده معلومات في هذه الجوانب؟ أليس من الواجب علينا دعمه وتشجيعه لكونه يحاول أن يطور ذاته؟ هذا السؤال من الممكن الحوار حوله في حال كان صديقنا الفاشينيستا لا يتقاضى أجرا مقابل ما يفعل أو يسعى للشهرة التي تفتح له أبوابا موصده لا يستحق أن يدخلها. في مجتمعاتنا الوعي التاريخي وثقافة القراءة في التاريخ بشكله العام ليست منتشرة بحيث يكون للمتلقي القدرة على تمييز الغث من السمين فيما يُطرح. الأمر الآخر وهذا أزعم أنني لاحظته بكثرة مجتمعاتنا في الكثير من الأحيان عندها كسل فكري فهي تفضل تلقي المعلومة بالسماع والمشاهدة دون الدخول في متاهات المكتبة والبحث على الشبكة العنكبوتية ولعل أحد أسباب هذا الكسل هو النظام التعليمي الذي لا يحث الطالب على البحث وإنما يجبره على التلقي.
النقطة الأولى تقودنا بالضرورة للنقطة الثانية إذ أنهما متلازمتان بشكل كبير فالحديث والتخصص في فرع واحد من فروع التاريخ يبعد الفاشينيستا عن الأضواء ولذلك عليه الحديث في كل شيء كل حين. وحتى لا نظلم الفاشينيستات وننصفهم غالبهم يتمتع بالذكاء عنده ذهن حاضر لكن استخدامه لذكائه يكون للكسب السريع. نعطي مثالين لتتضح هذه النقطة: الأول هو فيما يتعلق بالوثائق والمخطوطات ونشرها في تويتر والانستغرام تجده ينسب الوثيقة أو المخطوط لنفسه ويضع عليها ختمه رغم أن الأصل موجود في مكان آخر. مثال تجد من ينشر من الأرشيف البريطاني أو العثماني ويضع على الوثيقة التي نشرها اسمه أو ختمه، ألا يدفعنا هذا للتساؤل لماذا؟ أليس من مبادئ العلم أن ننسب الأمر لأهله وإلا ندخل في شبه السرقة العلمية والتزوير؟
المثال الثاني ركوب الموجة الاجتماعية أو السياسية من خلال اقتطاع الدليل وتركيبه على ما يريده المستمعون والمشاهدون! فعلى سبيل المثال حادثة قتل المصليين رحمهم الله في نيوزيلاندا انتفض الفاشينيستات بحرقة يدافعون عن الشهداء رحمهم الله برحمته وينسبون ويسبون العقل المسيحي المريض ويحللون الرموز التي كانت على بندقية القاتل وهذا أمر محمود برأيي. لكن هم ذاتهم عندما قتل حزب الله أو ايران أو ميليشيات الحشد الشعبي الأبرياء في العراق وسوريا أو عندما قتلت جبهة النصرة وداعش أو ميليشيات الأبرياء في سوريا والعراق لم نجد التحليل ف الفاشينيستا الشيعي في الغالب برر ودار وحاور ومثله فعل الفاشينيستا السني.
هذا التبرير يقودنا للنقطة الثالثة إذ أن أصدقائنا الفاشينيستات يشتهرون بالتحليل السطحي والأخذ من مصدر وربما مصدرين وبعدها الحديث بثوب الخبير في المجال ولذلك يقعون في تناقضات كثيرة وينسون بسرعة ماذا قالوا قبل شهور وأسابيع. لست هنا أعيب عليهم تغيير آرائهم فمن تغيرت آراؤه بعد أن قرأ واقتنع بالدليل نرفع له القبعة وإن اختلفنا معه بالرأي لكن الفاشينيستات في الغالب هو يغير رأيه لأن لم يعد يذكر ما قال أو أن المصدر الذي يستقي منه معلوماته قد تغير! النقطة الثالثة هي توأم النقطة الرابعة فالنشر عند الفاشينيستات سريع وذلك من أجل المنافسة على البقاء تحت الأضواء ولذلك نشرهم وكتبهم في الغالب ما تموت لضعفها أو لوصول الفاشينيستا لما يريد من مال ومنصب وشهره.
الفاشينيستا يشتهر بأنه كثير التعريف بإنجازاته لكل أحد وفي الغالب تكون هذه الإنجازات هي في حقيقة الأمر جزء من عمله. للتوضيح أنا هنا لا أقصد بكل تأكيد الإعلان عن كتاب أو مقال أو حتى محاضرة فكاتب هذا المقال سيفعل ذلك حال انتهائه من الكتابة. المقصود أن الفاشينيستا يجعل مما كتب أو قال أو بحث اعجاز العصر وحجته وأن نتيجته هي اضافه للحقل العلمي وأن ما وصل إليه سيكون فاتحه خير على العلم والباحثين. هذا الإحساس لدى الفاشينيستا التاريخي يقودنا للنقطة الأخيرة وهي الانتصار للذات فالحوار العلمي معه صعب ومحاولة نقده نقداً بناء أيضا فيه مشقة إذ أن أذنه لا تسمع سوى المديح أو النقد الذي لا يمسح جوهر إنجازه ومن هنا تجده كثير إعادة التغريد للمدح الذي يناله وبعضهم لا يعيد تغريد المدح لكنه في ذات الوقت يلمح لفلان وعلان عن هذا المدح وينشره عند من يعيد نشره ولذا فهو يتحايل للوصول لما يريد.
الفاشينيستات التاريخية بدأت تظهر بشكل كبير في المجتمع الخليجي عموما والكويتي خصوصا وبعضهم صار أداة لفكر أو تيار معين يدافع عنه ويقتطع التاريخ من أجل أن يصل لما يريد. يتساءل البعض ما الحل؟ لا أدري ما هو الحل لكنني أعرف أن الحديث عنهم ومقارعتهم بالحجة أمام الملأ ونقدهم وتوعية الناس بوجودهم يجعل تأثيرهم أقل وكنت ولا زلت مؤمنا بمثل كويتي "ما يصح إلا الصحيح".
شوارد:
فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
سورة الرعد آية ١٧
مقال رائع وتحليل مميز يرصد واقع الاغلبية مع الاسف. سلم قلمك يادكتور..
ردحذف