قبل شهور كنت قد قدمت مقالة علمية باللغة الإنجليزية لمجلة علمية محكمة وقبلت المقالة لكن بعد تعديلات طلبها المحكمون. ترددت كثيرا في هل أقبل تعديل المقالة أم ارفض نشرها! والسبب أن أحد المحكمين طرح انتقد البحث بطريقة تهكمية فيما يخص موضوع الإعتماد على المقابلات وكان تعليقه وأنا هنا اترجم "كيف يمكن للباحث أن يناقش حدثا حصل العقد الثالث من القرن العشرين معتمدا بشكل رئيسي على المقابلات الشفهية التي اجراها منذ عام ٢٠١٠؟" ثم بدأ يسترسل في قضية التاريخ الشفهي وهل يمكن للمؤرخ الإعتماد عليه دون الإعتماد على المصادر والمراجع الموجودة؟ وكانت وصيته للمجلة أن ينشر البحث بعد تطعيم المقال بمصادر أكثر وذكر بعضها.
تعليق المحكم جعلني أفكر بعمق في مدى صحته، هل فعلا علىّ كباحث أن اجد مراجع لهذه المعلومات؟ وأنا هناك اتحدث عن المرجع لا المصدر إذ أنه معروف بأن المصدر يكون للمشارك في الحدث أو شاهد عيان وربما معاصر للحدث نفسه في غالب التفسيرات في الفروقات بين المصدر والمرجع. أما المرجع فهو يستقي معلوماته من المراجع ويضيف عليها ويناقشها وربما يرجح رأيا على آخر وهكذا. قررت في نهاية الأمر أن لا اقدم على نشر المقال في المجلة لسببين: الأول هو علي التفكير في كلام المحكم والبحث حول صحة كلامه من عدمه والسبب الثاني هو ماذا لو لم يوجد مصادر مكتوبة تناقش
الحدث الذي ناقشه مقالي؟
خلال رحلة التفكير في هذا الموضوع وجدت أنه من المنطقي لأكاديمي غربي أن يتصور مثل هذا التصور فهو منتمي لحضارة غربية تأسست منذ القرن الثامن عشر على سبيل التقريب لا التحديد. في حضارته الممتده لأكثر من ثلاثمائة عام يجد ضالته في المصادر سواء كانت وثائق أو مخطوطات أو حتى كتب وسجلات. هذه السهولة في ايجاد ما يحتاجه ليكتب التاريخ امتدت حتى الحروب العالمية الأولى والثانية فصارت الإذاعات تسجل ذكريات الجنود والسياسيين والناس العاديين وصار التاريخ الشفوي عند العالم الغربي أمرا منطقيا خصوصا وأن عندهم مؤسسات تحفظ للأجيال القادمة مصادر هذه الحقب والسنوات. لكن في عالمنا العربي الأمر مختلف قليلا فهناك دول كانت متقدمة حضاريا مثل مصر وسوريا والعراق وبعض بلاد المغرب العربي تجد أن الباحثين في تواريخ هذه البلدان أكثر حظا من بقية الدول العربية عموما والدول الخليجية خصوصا.
في الخليج لدينا كنوز من الوثائق الأهلية والرسمية لكنها في الغالب غير متاحه للباحث بشكل ميسر وهذه من معسرات البحث التاريخي في منطقة الخليج العربي إذ أن هذه المراكز الرسمية في الغالب تكون وصية على الوثائق والمخطوطات التي لديها وهي تعتبر نفسها في الغالب وصية على هذه التركة لا تسمح بخروج ما لا تراه مناسباً لخارج دوائر ثقتها. هذه الوصاية جعلت بعض المراجع العلمية في التاريخ الخليجي تقع في إشكاليات تفسيرية للأحداث بسبب ظنها أن المصادر مفقوده لكن مع مرور الزمن نجد أن المصادر موجودة وتخرج شيئا فشيئا من الدوائر الرسمية.
التاريخ الشفهي كذلك موجود بنسب متفاوته فعلى سبيل المثال برنامج سيف مرزوق الشملان ورضا الفيلي المخصص عن تاريخ الكويت هو مصدر من مصادر التاريخ الكويتي والخليجي الحديث لكن هذه التسجيلات لم تكن متاحه بشكل سهل للباحثين حتى ظهر اليوتيوب فبدأت بعض الأسر تنشر مقابلات أجدادها من خلال اليوتيوب ولم تقتصر مقابلات الشملان والفيلي على طبقة معينة تجارية كانت أو دينية وإنما شملت جميع جوانب الحياة الكويتية تقريبا في الموسيقى والرقص الشعبي والصناعات وغيرها التي كانت مغيبه بقصد أو بدون قصد عن الساحة البحثية. في المملكة العربية السعودية كذلك نشر في اليوتيوب بعض المقابلات التي اجراها المرحوم عبدالرحمن الشبيلي مع بعض رجالات المملكة خصوصا النجديين وأكاد اجزم أن ما خفي من المقابلات في الكويت والسعودية أعظم مما ظهر على الساحة. أما في الإمارات وقطر فهناك مشروع دولة لتوثيق التاريخ الشفهي لهذه الدول وهذه مشاريع عظيمة ستخدم بلا شك الباحثين لكن أمنياتنا الدائمة بأن تكون هذه المشاريع التوثيقية متاحة بشكل ميسر.
نعود لأصل المشكلة في نقد المحكم وهي كيف لي أن أكتب عن حدث تاريخي مات ابطاله ومعظم من شهدوا ذلك الزمان؟ وحتى إن وجد من شهد الأحداث فكيف له أن يتذكر الحدث بتفاصيله بعد مرور أكثر من ٨٠ عام؟ وهل نثق بمن ينقل الحدث عن أبيه أو عمن عاصر الحدث؟ كل هذه اسئلة متسحقة بلا شك لكن السؤال الأهم كيف نكتب حدثا مهما في تاريخ الكويت مثل حدث المجلس التشريعي في عام ١٩٣٨ مثلا في حال وجود مصادر غير محايده ومتحيزه لطرف من أطراف الحدث بشكل واضح مثل مذكرات العدساني مثلا أو رواية الشيخ يوسف بن عيسى؟ أو مصادر تنقل بصورة انتقائية استخباراتية مثل الوثائق البريطانية؟ وماذا عن الفئات المجتمعية التي تم اغفالها عمدا بصورة طبقية مقيته وكأن الكويت في تلك الفترة تمثل اقطاعا وليس مشيخة؟ هذه التساؤلات وغيرها يجد الباحث نفسه مضطرا لمقابلة أجيال لم تشهد الحدث أو ولدت خلال حدوثه ليحاول التفسير والتحليل والوصول لأقرب نقطة ممكنه من الحقيقة.
في حدث المجلس التشريعي ١٩٣٨ مثلا نجد الكتابات الغربية تكاد تكون سطحية في الغالب بسبب عدم اهتمام الباحثين الأجانب بمقابلة غير الناطقين باللغة الانجليزية من الاكاديميين. ولعل الرجوع لمعظم ما كتب عن الكويت في فترة التسعينات مثلا نجد الشكر والمقابلات مقتصره على عدد معين اكاديمي يميل إلى تيار فكري واحد وتهميش بقية شرائح المجتمع وكأن الباحث كان يرغب في مقابلة هؤلاء ليصل إلى نتيجة كان يتفرضها قبل بداية بحثه. بلا شك هذا النقد لا يقلل من قيمة الأعمال التي صدرت عن الكويت في تلك الفترة لكن أحاول هنا تعليق الجرس . ولذا عندما يطلب المحكم الرجوع لمثل هذه الأعمال التي اعتمدت على التحليل والربط بين ما ورد في مذكرات العدساني مثلا والوثائق البريطانية ورأي مجموعة من الأكاديميين والتهكم على مقابلة شخص يبلغ السبعين في عام ٢٠١٠ ينقل عن والده أو جده هو ما يجب الوقوف عليه.
الضوابط المنهجية لاجراء المقابلات الشخصية فيما يتعلق في التاريخ الشفهي مكانه ربما مقالة قادمة لكن هنا أحاول الربط بين"التراث الشفهي" الذي ينقله جد أو والد لولده وقد يكون حديثا سمعه طفل في مجلس وربما سؤال وجهه أحدهم لعالم أو مفتي وغيرها من الطرق التي من الممكن أن نحصل فيها التراث الشفهي. الاشكالية التي وقع فيها المحكم من وجه نظري أنه طبق مفاهيم وأطر التاريخ الشفهي في العالم الغربي مثل كيف أرخوا للحرب العالمية الأولى على مجتمعات كانت بدائية بشكل كبير وقت الحرب العالمية! كما أن عدم فهمه اوقعه في اشكالية التسليم لما هو مكتوب في المصادر الغربية التي جعلت الصراع في مجلس ١٩٣٨ بين طرفين شيوخ وتجار وهذا مفهوم إذا ما رجعنا لمذكرات العدساني والوثائق البريطانية لكن هذه المراجع لم توضح لنا كل التجار وكل الشيوخ كانوا طرفا؟ أم كان هناك تمايز بينهم؟ هل مصطلح الشيوخ يعني الحاكم ومؤيدوه أم المنتمين لذريه مبارك أم جميع ال الصباح؟ ألم يكن العدساني جزءا من الصراع فكيف نأخذ روايته التي أغفل فيها دور الكثير من التجار بل وصور غير المنتمين للمجلس بشكل مغاير للمؤيدين لحركة ١٩٣٨! ماذا عن الوثائق البريطانية التي صورت بعض شرائح المجتمع بصور مختلفه بناء على النظرة الاستخباراتيه التي كانت تنقل؟ كيف لنا أن نحلل كيف كانت ردة فعل الشخص العادي الذي لم يشارك أصلا في الانتخاب وربما كانت لا تعينه بل ربما لم يكن ينظر له على أنه كويتي! أليست هذه أسئلة من الصعب الإجابة عليها دون إجراء مقابلات في أي زمن مع مشارك في الحدث أو معاصر له أو حتى ناقل عن أبيه وجده!
وهنا لابد من الطلب من الجيل الجديد من الاكاديمين الخليجيين بالخروج من عباءة التفسيرات القديمة للتاريخ المحلي والنظر من زوايا أخرى والتركيز على فهم المنهجيات التاريخية والنظريات وكذلك القراءة المتعمقة في فلسفة التاريخ فهذه الثلاثة أمور تكاد جامعاتنا الخليجية تخلو منها ومن المتخصصين المدركين فيها. كذلك اطلب من الأكاديميين الجدد أن يتمردوا على الغرب ونظرته خصوصا في المؤتمرات فمن تجربة شخصية ولا أعمم هنا الكثير من الباحثين الغربيين لا يجيد اللغة العربية ولا اللهجات المحلية ولا يفهم بصراحة الواقع الخليجي والمجتمع إلا من خلال فئة معينة في الغالب تكون هذه الفئة من الخليجيين الذين لهم عقول غربية ويحسبون أنهم يحسنون صنعا!
شوارد
"لقد ظل العرب ثمانية قرون طوال يٌشعون على العالم علماً وفناً وأدباً وحضارة"
المستشرقة الألمانية سيجريد هونكة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق