في الآونة الأخيرة، بدأت في التفكير في النشر العلمي المحكم حيث يُقيّم بحثك قبل نشره متخصصون من نفس المجال، ويعطونك ملاحظات، وربما يرفضون نشر بحثك، وفي القليل من الحالات يُنشَر بحثك كما هو.
من خلال رحلة البحث عن مجلة علمية باللغتين العربية والإنجليزية، وجدت أن هناك الكثير من الفروقات بين النشر في اللغتين، خصوصًا فيما يتعلق بجودة الفكرة وتماسك البحث ومدى إسهامه في الحقل العلمي. لست أدّعي أن جميع المجلات العلمية التي تصدر باللغة الإنجليزية ذات معايير عالية، ولكنْ على الأقل فإنّ معظمها لديه معايير واضحة. وكلما زادت قوة المجلة العلمية زادت عدد المقالات التي تتقدّم إليها بطلب النشر، وزادت -على إثرها- نسبة الرفض فيها، بينما في المجلات العربية قلما تجد هذه المعايير الصارمة.
خلال الفترة الماضية، تحدثْتُ مع بعض الزملاء ممّن يحملون شهادات عليا في تخصصاتهم، وبعضهم بلغ مرحلة الأستاذ الدكتور (البرفسور) - تحدّثنا عن النشر العلمي في منطقتنا العربية، وعن فكرة النشر العلمي عند الأكاديميين العرب (الخليجيين على وجه الخصوص). وكان النقاش يدور حول فكرتين رئيستين: أهداف النشر الصحيحة من جهة، وغير الصحيحة من جهة أخرى، بناءً على خبرة كل أكاديمي منهم. وهنا تجب الإشارة إلى أن المقال لم يُبْنَ على دراسة علمية، أو بحث، أو استبيان، وإنما بُني على خبرة الزملاء من حملة
شهادة الدكتوراه في الجامعات الخاصة والحكومية في معظم دول الخليج، وبالتأكيد على تجربتي الشخصية.
لعل من التساؤلات المهمة: لماذا ينشر الباحث بحثًا أو يكتب كتاباً علمي؟ وما الهدف من وراء ذلك؟ ذلك أنّ الهدف والدافع من يحددان مسيرة هذا النشر وقيمته. ولأنّ أسباب النشر عديدة، فإنّ بعضها سوف يُصَنَّف على أنّه سلبيّ وبعضها الآخر إيجابيًا.
أؤمن وبشدة بأنه كلما زادتْ إيجابية الدوافع والأسباب من وراء النشر تطورتْ الحقول العلمية في البلد الذي تنشر منه الأبحاث، وزاد رقي الجامعات؛ لأن ارتقاء الجامعة مرهونٌ برقي العاملين فيها، وهنا أنا لا أتحدث عن الأخلاق الراقية -وإن كانت مهمة- إنما أقصد الارتقاء العقلي والبحثي من خلال نشر ما ينفع، وبدوافع علمية نبيلة.
أحد أهم الدوافع النبيلة والصحيحة للنشر -فيما أعتقد- هو الرغبة في تطوير الحقل العلمي الذي يعمل به الباحث، وهذا التطوير ليس حكرًا على التخصصات العلمية كالطب والهندسة والصيدلية، وإنما يشمل جميع العلوم الأخرى، حتى وإن اختلف التجريبيون معي في تسمية العلوم الأخرى علومًا! ولكنّ تطوير الحقل العلمي هدف نبيل، وغاية كل باحث جاد. والتطوير لا يكون في اكتشاف شيء علمي جديدٍ فحسب، بل في نقض فكرة ما، قائمة، أو سد خلل في فلسفة معينة، أو إيجاد إطار منهجي جديد، أو تطوير أحد المناهج الموجودة.
من الدوافع النبيلة والصحيحة كذلك، هو قياس فكرة علمية من خلال النشر، ومن ثَمَّ ردود المتخصصين على هذه الفكرة، وإثرائها، فتكون الفائدة مشتركة للحقل العلمي، وللباحث، وللنقاد. ولعل أشهر من يستخدم هذا الأمر هم طلبة الدكتوراه حيث يحرصون على نشر جزء من فكرتهم من أجل تقييمها قبل خضوعهم للمناقشة وحصولهم على الدكتوراه. مثل هذه الخطوة تكفيهم عناء الحرج والعمل بعد المناقشة. حتى وإن لم ينشر المقال، فبمجرد تقييم المقال (الفكرة) من قبل محكميْن اثنيْن وقبولها أو رفضها، هو بحد ذاته نقد بنّاء وتطوير للفكرة.
وكذلك من الدوافع الايجابية في النشر العلمي، وهنا أتحدث عن مجال التاريخ تحديدًا، هو نشر نوادر الوثائق والمخطوطات، وإتاحتها للباحثين حتى يتمكنوا من البناء حول ما نشرت، أو ربما إرشاد الباحثين من خلال النشر إلى مواضيع قد تكون دقيقة، لكنها مهمة للآخرين، لبناء نقاش أعمق. على سبيل المثال: في دراسات الخليج، ولكثرة الباحثين غير الخليجيين أو غير العرب، يحتاج الباحثون الخليجيون إلى الكتابة بشكل أكبر، والتوسّع بمسائل ومواضيع دقيقة لن يتمكن الباحثون الغربيون من فهمها، ما لم يعيشوا بين ظهراني المجتمع الخليجي زمنًا طويلًا، وأمثال هؤلاء الباحثين كثير في الجامعات الغربية. ومن هنا يكون الإسهام كبيرًا جدًا في حقل دراسات تاريخ الخليج، ويساعد على تطوره وتحليله دون احتكار للفهم أو المعلومة أو الوثيقة عند "البعض".
ننتقل إلى الدوافع السلبية في النشر، وسأبدأ بالدوافع التي وجدتها مشتركة عند "بعض" الباحثين في الغرب والشرق، وأول هذه الدوافع السلبية هو النشر لأجل الحصول على المال. قد يكون ذلك واضحًا عند المشتغلين في العلوم التطبيقية، إذْ إنّ أبحاثهم تستخدم في التسويق لمنتجات عديدة يحتاجها الناس، ولذا تحرص الشركات على دفع وتمويل العديد من المشاريع العلمية، والأبحاث المحكمة؛ من أجل التسويق لمنتجاتها. والإنسان في الغالب يضعف أمام شهوة المال، ولذا كان لزامًا على الباحث فَهْمَ الدافع الأساسي من وراء الدعم المقدم من أي جهة.
ليست العلوم التطبيقية فحسب ممّن تقع تحت وطأة تأثير المال، إنما العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضًا. فعلى سبيل المثال، نجد الكثير من المراكز البحثية في العديد من الجامعات العريقة، وغير العريقة، مدعومة من دول وشخصيات مؤثرة تُدير مسار البحث العلمي باتجاهٍ معين، وأهدافٍ لربما تكون سياسية، اقتصادية، اجتماعية، لتحقيق مصالح شخصية أو فئوية مرسومةٍ ومحدّدة، دونما مراعاة للجانب العلمي بشكل محض. هذه المشكلة تتفاقم في العالم ولو بحثت عزيزي القارئ في قوقل عنها ستجد مئات المقالات أو ربما الآلاف عنها.
من الدوافع السلبية للنشر العلمي كذلك، وهذا ما وجدته في عالمنا الشرقي أكثر، والخليجي تحديدًا، وأنا هنا لا أعمّم، أنْ يسعى المرء إلى النشر العلمي بغيا الحصول على ترقية علمية. بكل تأكيد هناك تفاوت في كل مجال وحقل علمي من حيث قوة الأبحاث ورصانتها، ولكن في الغالب الذي شاهدته وسمعت عنه هناك الكثير -وربما يحق لي أن أقول الأغلب- من الأبحاث كُتبت لتنشر، وربما سُرقت لتنشر. هناك حساب للدكتور "موافق الرويلي" على تويتر يفضح مثل هذا التلاعب، وخصوصًا في قضية الحصول على شهادات علمية من جامعات وهمية تجد معظمهم تغريداته على وسم #هلكوني.
المؤلم حقًا في هذه النقطة أنك تجد بعض الأساتذة ممن وصلوا لمرحلة الأستاذ الدكتور، معظم نشره العلمي في مجلات يغلب عليها جانب المجاملات الاجتماعية أو مشهور عنها النشر مقابل المال. وهذا قد يكون أحد أسباب تدهور مجال البحث العلمي في عالمنا العربي عمومًا والخليجي خصوصًا.
أكرر أن هذا ليس تعميمًا، وإنما الحديث عن شيء موجود! ولعل المتخصصين في هذا المجال يبحثون في مدى صحة هذا الأمر ويضعون الحلول له ويقيسون أسباب وجود مثل هذه الشخصيات بيننا.
من الأمور السلبية في النشر العلمي أيضًا، هو الرغبة في جعل السيرة الذاتية كبيرة. إذ إنّ الكم لدى البعض أوْلى من الجودة والكيف. وهذا الأمر لمسته عند الغربيين والشرقيين على حدٍّ سواء، حيث تجد سيرهم الذاتية محشوةً بالكثير من الأعمال منها ما له تأثير، ومنها ما ليس له أي تأثير، بل إنّ بعضهم يضع أعمالاً غير منشورة وغير معروضة على جهات نشر، من باب الاستعراض ليس إلّا.
هذه النقطة تقودني إلى نقطة أخرى وهي مفهوم "الخبير الصغير". هذا المصطلح يعبر عن واقع استشعرته مثلما استشعره نفرٌ غيري، إذ تجد أحدهم متخصص في التاريخ السياسي الحديث، أو التاريخ الإسلامي، أو التاريخ الأوروبي، لكنه يتحدث في كل مجالات التاريخ، ويلقي محاضرات، ويظهر على شاشات التلفزة، وأحيانًا يشارك في مؤتمرات في مجال تاريخي غير مجاله، لربما من باب حبه للشهرة، أو لأهداف خاصة عند هذا الباحث. ولذا تجده يساهم في أي عمل أكاديمي يعرض عليه دون وجود القدرة العلمية عنده، وربما دون وجود الرغبة حتى، والتي تعتبر أحد أهم أسباب البحث العلمي إذا رافقها الشغف.
النشر العلمي متعة يشعر بها الباحث الجاد الذي يجد في العلم بابًا للشغف والدهشة وليس بابًا للرزق وكسب المال فقط. النشر العلمي لذة حاضرة وماضية، فكم من مقال علمي كتب قبل عشرات السنوات ويستمتع بقرائته باحث اليوم. النشر العلمي الحقيقي يبقى، ولا يندثر مع الزمن، ويترك لصاحبه أثرًا واحترامًا وتقديرًا حتى وإن لم يدرك من ذلك شيئًا أثناء حياته. النشر العلمي يطور الباحث ويجعله إنسانا أفضل. النشر العلمي حياة!
شوارد:
"العلم كالأرض لا يمكننا أن نمتلك منه سوى القليل"
فولتير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق