تعلم لغة جديدة يعني إضافه فهم جديد للعالم من حولنا ، فاللغة ليست وسيلة للتواصل والاتصال مع الآخرين فقط إنما هي ثقافة وسلوك وطريقة تفكيرٍ وحضاره. اللغة الانجليزية مما لا شك فيه لغة مهمة من لغات العلم والمعرفة اليوم فمن خلالها يتعرف الإنسان على أحدث ما نُشر في الكثير من حقول المعرفة العلمية والاكاديمية. لذلك من وجهة نظري المتواضعه أن تعلمها أمر ضروري في عالمنا اليوم لكل صاحب طموح وهدف ، ولكل من يبحث عن الإنجاز كذلك. ولا يعني تعلم الانجليزية أو أي لغة أخرى انسلاخنا عن هويتنا العربية أو الإسلامية إنما يعني النظر للعالم بطريقة أخرى والقدرة على تطوير مدارك عقولنا والقراءة والبحث بلغتين بدل اللغة الواحده ومن زاد في اللغات فلا إثم عليه.
هذا المقال لا يناقش أهمية تعلم لغة جديدة ولا يحاول اقناع القراء بتعلم لغات أخرى. الهدف الرئيسي من وراء هذا المقال كما يتضح من عنوانه تسليط الضوء على إشكالية لامستها في مجتمعنا الكويتي بشكل خاص والخليجي ،بإستثناء المملكة العربية السعودية، بشكل عام. الإشكالية تكمن في عناية بعض الباحثين الخليجيين العرب في دراسة تاريخهم وتدريسه باللغة الإنجليزيه لطلبة وطالبات من بني جلدتهم! وعندما سألت عن سبب ذلك وجدت أسباب هذه الظاهره أو لنقل مبرراتها في عذرين: (١) قوانين الجامعة تنص على تدريس هذه المواد بالانجليزيه ، (٢) بعض الطلبه (الخليجيين) لا يفهمون اللغة العربية!
بحثت في النقطة الأولى ووجدت أن الجامعات بعضها حكومي وبعضها جامعات خاصه فعلا تلزم الدكتور على تدريس التاريخ المحلي أو العربي أو الإسلامي باللغة الانجليزيه بل والله وجدت أحد الأكاديميين الخليجيين يضع تدريسه لتاريخ بلده باللغة الانجليزيه كأحد انجازاته! لا أفهم كيف تسمح حكوماتنا الخليجية على وجه العموم والحكومة الكويتية على وجه الخصوص بذلك. هل نسينا كفاح شعوبنا العربية لطرد الإستعمار من بلداننا؟ هل نسينا كيف قاومت الجزائر بمليون شهيد فرنسا وطردتها؟ هل نسينا كفاح أهل مصر وانطلاق شرارة القومية العربية منها والتي صارت في كل بيت عربي؟ هل نسينا جهود مثقفينا الأوائل في الخليج في الدفاع عن هويتنا ولغتنا وحتى تاريخنا ؟ لماذا توضع مثل هذه القوانين التي تبعدنا عن تاريخنا الحقيقي بحجة التطور والتمدن والحضاره! هل يعقل هذا بالله عليكم؟
التبرير الثاني والله هو عذر لم يصل عقلي لمبررٍ له ، ألا يكفي هؤلاء المساكين أن أهلهم لم يهتموا بهم وتركوهم ينسلخون من هويتهم ولغتهم وحضارتهم دون أن يضعوا حدا لهذا الانسلاخ. ثم تكمل هذه الجامعات انسلاخهم من خلال مساعدتهم وتدريسهم تاريخ بلدانهم بلغة أخرى. الإشكال ليس في التدريس باللغة الإنجليزية فقط بل عدم قدره هؤلاء الطلبه على قراءة المصادر العربية التي هي أساس تاريخهم فيقوم الاكاديميون بتقرير كتب كتبت باللغة الإنجليزية لباحثين غربيين وعرب عليها ملاحظات واستدراكات بل ربما سوء فهم وفي أحيان اخرى نظره استشراقية متعاليه لتاريخنا وأجدادنا.
بلا أدنى شك أن اللغة الإنجليزية لها أثر كبير في فهم وتحليل تاريخ الخليج والعالم العربي لكون الإنجليز استعمروا أرضنا لسنوات عديده. وللغة الإنجليزية أهمية في تاريخ الخليج على وجه الخصوص لكون المستعمر الانجليزي سجل أحداث المنطقة وحفظها في سجلاته يوم كان الجهل مسيطرا على منطقتنا الخليجية. ولا ينكر باحث في تاريخ وسياسة الخليج العربي أن الأرشيف البريطاني ساهم في كشف الغطاء عن الكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي اخفتها السجلات المحلية. الفقره السابقة اقرار واعتراف بأهمية اللغة الانجليزيه في تحليل وكتابه تاريخ الخليج كأداة مساعده وليست رئيسية. ومن خلال دراستي للدكتوراه وجدت أن الباحثين الغربيين الذين يدرسون تاريخ وحضاره وسياسة منطقة الخليج يُفرض عليهم تعلم اللغة العربية لادراكهم أن الكثير من المصادر الاساسية كتبت باللغة العربية كما أنهم يفهمون أن اللغة ليست وسيلة تفاهم فقط بل حضاره وثقافة. وبما أن مصادرنا التاريخية المكتوبة باللغة العربية كثيره وكثيره جدا وهي مهمة لدارسي تاريخ الكويت على سبيل المثال وكونها غير مترجمة إلا ما ندر منها مثل كتاب تاريخ الكويت لأبوحاكمة فكيف يكون تدريسنا لتاريخنا في بلادنا بلغة أجنبية؟
أفهم أن تُدرس منهجيات البحث العلمي باللغة الانجليزية كما ادرك أن النظريات التاريخية وفلسفاتها من الممكن أن تدرس بلغات أخرى لكون العالم الغربي هو الرائد اليوم في هذا المجال ، لكن مع وجود حركة ترجمة كبيرة تقوم بها الإمارات العربية المتحده والكويت وقطر لترجمة هذه الكتب إلى اللغة العربية تنتفي الحاجة الماسه لهذه اللغات.
هذه المنهجيات هي أُطر لتحليل التاريخ والسياسة في الخليج لكن السؤال هل تصلح هذه الأطر المعرفية لتحليل عالم مختلف تماما عن العالم الذي نشأت فيه هذه النظريات والمناهج؟ أليس علينا تطوير أو تعديل هذه الأطر حتى تتناسب مع تاريخنا وحركته؟ ألسنا نحن الأقدر على فهم تاريخنا؟ أوليس من واجب المؤرخين الخليجيين أن يفهموا هذه النظريات ومن ثَم يطورونها أو يبنون عليها وربما ينسفونها؟ هل لتقديس ما يأتي من الغرب دور في عدم تصدينا لمثل هذه الأعمال أم هو الإنهزام الثقافي وربما الكسل؟
هذه المنهجيات هي أُطر لتحليل التاريخ والسياسة في الخليج لكن السؤال هل تصلح هذه الأطر المعرفية لتحليل عالم مختلف تماما عن العالم الذي نشأت فيه هذه النظريات والمناهج؟ أليس علينا تطوير أو تعديل هذه الأطر حتى تتناسب مع تاريخنا وحركته؟ ألسنا نحن الأقدر على فهم تاريخنا؟ أوليس من واجب المؤرخين الخليجيين أن يفهموا هذه النظريات ومن ثَم يطورونها أو يبنون عليها وربما ينسفونها؟ هل لتقديس ما يأتي من الغرب دور في عدم تصدينا لمثل هذه الأعمال أم هو الإنهزام الثقافي وربما الكسل؟
من تجربتي الشخصية أجد أن هناك نقاط مهمة ساهمت في محاولة بعضنا التخلي عن عربيته في الفهم والتحليل ومحاولته الإندماج (الذي لن يحصل) مع الأكاديميا الغربية وتبني أفكارها ربما بدون وعي. أول هذه النقاط أن العالم الغربي اليوم يمتلك الجامعات ومراكز الأبحاث المؤثره في العالم ولذلك يحاول توجيه البحث العلمي والأكاديمي إلى وجهات معينه. في تاريخ الخليج على سبيل المثال حضرت مجموعة من المؤتمرات وورش العمل وكان الشعور الذي انتابني بعد انتهاء هذه التجمعات الاكاديمية هو الاندهاش! الاندهاش الذي انتابني هنا ليس بمعناه الإيجابي وإنما كنت مستغربا هل تحدث بعض من شارك عن الخليج أم عن المريخ وزحل؟ هل نحن كائنات فضائية حتى ينظروا لنا بهذا الإستغراب والتحليل ،الغير منصف، في الكثير من الأحيان؟ وقد ناقشت بعض الأصدقاء ووجدت أن ذات الشعور انتابهم. فبعض الباحثين في الغرب يطبق فهمه وطريقة تطور مجتمعه علينا في الخليج وعندها يجد أن هنا غرابة كبيره وتنافر بين نظريته التي نشأت بناء على فهم واضعها لمجتمع أوربي وبين واقع الخليج. وأنا هنا لا أقول أن لتاريخ الخليج خصوصيه إنما احاول تبيين أن تاريخ الخليج مختلف كما هو الحال لتاريخ فيتنام والهند واليابان وفنزويلا وغيرها من الدول التي تمتلك أرثا ثقافيا وحضاريا مختلفا عن دول أوربا.
النقطة الثانية هي تقصير المؤرخين الخليجيين على وجه التحديد في الإضافه لحقل دراسات الخليج إضافات جوهرية لإنشغالنا بأمور أخرى أو تفضيلنا الكتابات التاريخية السردية وربما الخلاف على جزئيات صغيره قد تفيد البحث التاريخي لكن لا تطوره وقد كتبت مثالا عن مثل هذا الخلاف على الجزئيات عنونته ب تاريخ الأوائل. لعل أحد اسباب هذا الأمر هو عدم فهمنا لمنهجيات البحث العلمي والنظريات التاريخية بشكل عميق ، ومن تجربتي الشخصية التي عانيت من خلالها كثيرا ولا أزال أعاني في قضايا فهم المنهجيات التاريخية التي كتبت وعن تطورها ووجدت هذا الضعف عند الكثيرين من أقراني وعند بعض اساتذتنا كذلك. هذا الضعف سبب عدم وجود مواد تخصصية في الجامعة واتمنى من القائمين على الجامعات في الخليج اعطاء بكالريوس في المنهجيات التاريخية من خلال استغلال قوه أهل المغرب والدول العربية كمصر وسوريا في هذا التخصص فالكثير من الكتابات المترجمة والمكتوبه في المنهجيات والنقاش حولها يحوز على قصب السبق فيها أهل المغرب ومصر.
النقطة الأخيره التي أود اضافتها في قضية أسباب انهزامنا التاريخي أمام اللغة الانجليزية وأنا اتحدث هنا من تجربه شخصية هو الاستعلاء ، الاستشراق ، التكبر الغربي سمه ما شئت. بلا شك أنا لا أعمم بل مشرفي في رسالة الدكتوراه هو من اكثر الداعمين لي خلال فتره دراستي لكنني اتكلم في المجمل. هذا الاستعلاء يتمثل في محاولة بعض الباحثين الغربيين تغطيه ضعفهم العلمي من خلال التلاعب بالالفاظ واللغة. فعلى سبيل المثال حينما تناقشهم في قضية جزئية يركز على اللغة أكثر من تركيزه على المعلومه والنقاش. وقد يقود النقاش ناحيه قضايا نظريه (والتي بلا شك هم أفضل منا فيها) محاولا تجاوز الدخول في التفاصيل التي قد تؤدي إلى نقض فكرته التي بناها على نظريه ما. فالقوه التي يمتلكها بعضهم هنا هو الفهم النظري والعمق فيه ولذا تجده يشعر بالانتصار إن وجد حدثا تاريخيا يؤيده ومن وجهة نظري أن ذلك من الأخطاء إذ على الباحث أن يفهم التفاصيل حتى يستطيع التنظير والكتابه.
وأخيرا دعوة لجميع الجامعات في الدول الخليجية أن تلغي فكرة تدريس تاريخنا وحضارتنا باللغة الانجليزية فقط وتستعيض عن ذلك بالتدريس بالعربية كأساس للمواد مع الإستعانه باللغة الانجليزية واللغات الأخرى. وللزملاء التي لم يجدوا بدا من التدريس باللغة الانجليزيه أقول لا بأس عليكم فقد أكون أحدكم يوما ما! لكن ثقوا تماما أنني لن أقدم على مثل هذه الخطوه حتى تغلق جميع أبواب الجامعات التي تفتخر بتدريس تاريخنا بلغتنا فابحثوا عن بدائل لعلكم تفلحون!
شوارد:
"لا أعرف أمة في الدنيا يجهل أبناؤها لسانها جهل أبناء العرب بلغة العرب"
علي الطنطاوي