السبت، 19 أكتوبر 2019

طموحٌ في زمن الإهمال: فاطمة الفضيلية علم راسخٌ وتاريخٌ مشرق

أضحت الدراسات التي تناقش التاريخ الهامشي أو التاريخ المسكوت عنه في الخليج العربي أمرا ضرورياً في حقل التاريخ اليوم وللمهتمين بتاريخ المنطقة. وليس بالضرورة أن يكون التاريخ المهمش في حقل تاريخ الخليج مُهمّشاً كذلك في رُقَعٍ جغرافية أخرى أو حقب زمنية للمكان الجغرافي ذاته. هذا المقال سيسلط الضوء على جهد عالمة زبيرية الدار نجدية الأصل حنبلية المذهبذكرتْها كتب التراجم إلا أن وجودها على الهامش في إطارالتاريخ الحديث للخليج لا يعني أن مثلها لم يسلط عليهن الضوء في عصر الازدهار الإسلامي. ولعل المقال المنشور على موقع الجزيرة نت حول الإمام السخاوي وخمس وثمانين شيخة وعالمةروى عنهن واحتفى بهن يدلل على أن ما كان في الهامش اليوم قد يكون تحت الأضواء في زمان ومكان آخرَين.

التاريخ الهامشي في الخليج والجزيرة العربية: هل هو ضرورة؟

بدأت كلمة (مهمش) تأخذ بعداً اصطلاحياً في القرن الثامن عشر حيث ظهرت كتب ومذكرات ويوميات لحياة أشخاص عاديين حول المشاركة في الأعمال العسكرية، ثم انتقل المصطلح ليشمل المراتب السفلى من المجتمع ممّن لا يهتم بهم كُتّابُالتاريخ في ذلك الزمان كما ناقش ذلك اليعقوبي وطحطح في كتابهما "التاريخ من أسفل". لعل أنطونيوا غرامشي وكذلك مدرسة الحوليات الفرنسية وبعض الدراسات التي قام بها المؤرخون الإنجليز فيما يعرف بدراسات Subaltern Studiesشجع كثيراً من المؤرخين حول العالم على الاهتمام بتاريخ المهمشين والتاريخ المسكوت عنه، كما يمكن اعتبارُ كِتابِ "التاريخ من أسفل" مدخلاً لكل مهتم بهذا النوع من التاريخ. 

في هذا المقال نقدم سيرة عالمة حنبلية، لا نقول إن تاريخها قد تم تجاهله بشكل كامل لكن لم يعط القدر الكافي من البحث. فسيرة فاطمة الفضيلية قد تعتبر جزءاً أصيلاً من التاريخ المهمش إذاوُضعت في الزمن التاريخي المحدد وهو القرن الثاني عشر الهجري والإطار المكاني وهو الجزيرة العربية في تلك الفترة. هذان العاملان ينقلان امرأةً فاضلةً كفاطمة من مسرح الأحداث إلى المجهر التاريخ حيث لا يمكن الادعاء بأن الحضارة الإسلامية وعالمات الشرع قد تم تجاهلهن، فهناك منذ عهد النبي- صلى الله عليه وسلم- صحابياتٌ تميّزن بتصدر مجالس العلم والفتوى وعلى رأسهن السيدة عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها، ولذا فالجزم بأن عالمات الشرع والمُحدّثاتوالفقيهات كن في الهامش على امتداد التاريخ الإسلامي هو ادعاء باطل. من هنا كان لا بد من التوضيح بأن الزمن والجغرافيا هما من أدخلا فاطمة الفضيلية للهامش التاريخي،وعليه يكون هذا المقال محاولة لإيضاح القيمة العلمية لهذه العالمة الجليلة.

الشام الصغيرة والفضيلية: كلٌ له فضل! 

هناك العديد من الكتب، ولعل من أفضلها، من وجهة نظري، كتاب Women and the Transmission of Religious Knowledge in Islam والذي تُرجم للعربية عن طريق دار مدارات للأبحاث ٢٠١٨. تركز الكاتبة أسماء سيد على المُحدّثات بشكل رئيسي بالرغم من ذكرها لعدد من الأديبات والفقيهات. ما يهمنا في هذا المقال الفصلُ الرابع والذي ركزتُ فيه على السلفية والعصر العثماني والمُحدّثات. تذكر أسماء سيد بعضَ المُحدّثات في العصر العثماني مثل شهدة الكاتبة العراقية، وزينب بنت الكمال المقدسية التي أقامت في شمال دمشق ووُصفت بأنها مسندة الشام، وأخيراً عائشة بنت محمد التي عاشت في دمشق كذلك. وتذكر أسماء أيضا أن ما يُميز سيرة ومسيرة هؤلاء العالمات المحدثات أنهنّ نشأنَ في أُسَرٍ علمية، وسعى أولياؤهن منذ طفولتهن إلى تعليمهن وحصولهن على إجازات متنوعة وإدماجهن في أقصر سلسلة ممكنة من سلاسل الرواة في الإسناد، كما كان سَعْيُ أوليائهن في تعليمهن العلم الشرعي من باب التمهيد لأن يتميزْن في المستقبل. 

هنا يأتي تميّز فاطمة الفضيلية - رحمها الله- إذ لا بد من توطئة التاريخية للبلد التي نشأت فيها المترجم لها ألا وهي بلد الزبيرفي جنوب العراق، ولم تذكر المصادر والكتب التي أرخت لسيرتها- رحمها الله- اهتمامَ أسرتها بها من ناحية تعليمها العلم الشرعي أو الحرص على حصولها على الإجازات الشرعية، لكنها مع ذلك أدْرِجَت في الفقيهات، كما سنرى في هذا المقال، واستطاعت أن تُخَلّدَ اسمَها في تاريخ العلم والفقه لا سيما الحنبلي. 

لابد من شرح بسيط هنا لتاريخ مشيخة الزبير النجدية في جنوب العراق حتى يسهل على القارئ غير المُلِمّ بتفاصيل تاريخ الجزيرة العربية فَهْمُ قيمةِ وأهميةِ ومكانةِ فاطمة الفضيلية. عندما نتحدث عن مشيخة الزبير في هذا المقال فنحن نعني تلك المشيخة التي تأسست على يد النجديين الذين نزحوا من الجزيرة العربية بسبب القحط أو التجارة أو الظروف السياسية عند قيام الدعوة الوهابية والدولة السعودية الأولى. وقد استقر في الزبير العديد من العلماء الأحبار والفقهاء الأخيار الذين خالفوا دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب فكريا وأيدولوجيا، وعلى رأس هؤلاء العلماء الشيخ الحبر الفقيه المسند محمد بن عبدالله بن فيروز (١١٤٢-١٢١٦هـ) الذي ترجم له ابن حميد صاحب السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة بقوله: "العلامة الفهّامة كاشف المعضلات وموضح المشكلات ومحرر أنواع العلوم ومقرر المنقول والمعقول بالمنطوق والمفهوم" كما تذكر كتب التراجم، ويكفيك هذا الوصف لتعرف قيمة هذا الحبر العالم الجليل. 
تتلمذ على يد الحبر ابن فيروز الشيخ إبراهيم بن جديد، ثم ارتحل للشام فسكن المدرسة المرادية مدة أربعة عشر عاما،وأجازه كبار علماء دمشق في عصرهم، ثم رجع لبلدته الزبير وتولى القضاء فيها، وكان له علم وجاه عند الناس وله مواقف سياسية وثقافية تزخر بها كتب التراجم وتاريخ الزبير، منها على سبيل المثال لا الحصر تعليمه في مدرسة الدويحس، وهي من منارات العلم في الجزيرة العربية في ذلك الزمان حتى أن بعض المؤرخين أطلق على الزبير اسم "الشام الصغيرة".

الشيخ بن جديد هو نجدي الأصل كذلك، وهنا يتبين لنا كيف أن علماء الزبير النجديين كانوا يختلفون عن علماء نجد من نواحي عديدة. فالاحتكاك في العراق وأهله ووجود الحكم المملوكي ثم العثماني الذي كان بلا شك أكثر تطورا من النظم في الجزيرة العربية- ساهم في اتّقاد عقولهم وتوسع مداركهم، كما أنهم لم يقبلوا بالدعوة الوهابية بشكلها المطلق. وحيث إن هذا المقال لا يركز على الاختلافات بين علماء الزبير النجديين وأقرانهم في نجد، فإنّا نكتفي بالقول بأن الشيطان يكمن في التفاصيل على أمل شرح هذه الفروقات في مقال آخر. 

من تميز فاطمة الفضيلية أنها نشأت في هذا المجتمع النجديالزبيري المنغلق، ولذا فإن تميز المرأة فيه صعب وصعب جدا خصوصا في القرنين الثاني والثالث عشر حيث وُلدت وماتت رحمها الله. يذكر صاحب التحفة النبهانية عند وصفه لمشيخة الزبير: " وكان أهل الزبير متعصبين من أن يسكن معهم أجنبي في الدين ... كلهم من أهل السنة والجماعة وغالبهم على مذهب الإمام أحمد بن حنبل"

بلا شك أن بعض النساء تميزوا في نجد أو في الزبير في تلك الحقبة، وقد ذكرت الباحثة دلال الحربي في كتابها المميز "المرأة في نجد وضعها ودورها ١٢٠٠-١٣٥١ هـ" بعضَ الإسهامات الطبية والعلمية. لكن مع ذلك فإن تَمَيّزَ المرأة في القرنين الثاني والثالث عشر الهجري كان نادراً خصوصا فيما يتعلق بالفقهوالعلم والإفتاء إذا ما قورن ببعض الحواضر العربية الأخرى كالعراق والشام ومصر. من خلال نظرة خاطفة على كتاب علماء نجد خلال ثمانية قرون، نجد أن المؤلف عبدالله بن عبدالرحمن البسام ترجم لثلاثين وثمانمئة عالمٍ نجديٍ تقريبا، منهم ثلاث نساء فقط إحداهن هي فاطمة الفضيلية رحمها الله. 




من هي فاطمة بنت حمد الفضيلي؟
هي فاطمة بنت حمد الفضيلي، وأسرة الفضيلي التي تنتسب لها فقيهتنا أسرةٌ نجدية هاجرت للزبير كما يذكر ذلك صاحب كتاب علماء نجد. وُلدت في بلدة الزبير قبيل المئتين وألف لهجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، لكن ابن غملاس، وهو مؤرخ زبيري من أصول نجدية أيضا، في مخطوطته "الإعلام في أعيان بلد الزبير بن العوام" يؤرخ لولادتها فيجعلها في عام ألف ومئتين للهجرة. 
قرأت الشيخة فاطمة على علماء الزبير وأكثرت من القراءة على عالم الزبير في زمنه الشيخ إبراهيم بن جديد وأخذت عنه الإجازة في التفسير والحديث والفقه، كما أخذت العلم عن الشيخ محمد بن حمد الهديبي، كما أنها تعلمت الخط من صغرها فأتقنته. وعندما هاجرت وسكنت مكة، تردد عليها غالب علماء مكة وسمعوا منها وأسمعوها. يقول ابن حميد في السحب الوابلة حول سماعها والسماع منها من قبل علماء مكة في زمانهم:

" ... فتردد عليها غالب علماء مكة المشرفة وسمعوا منها وأسمعوها وأجازتهم وأجازوها خصوصا قمريها النيّرين العلامة الورع الزاهد الثبت القدوة شيخ الإسلام الشيخ عمر عبد (رب) الرسول الحنفي والعلامة الحجة الورع العمدة الشيخ محمد صالح الريس مفتي الشافعية فإنهما كانا كثيري التردد إليها والسماع منها من وراء ستارة"

كانت الفضيلية الزبيرية قارئة نهمة ذات عقل نقدي وذهن حاضر. رُوي عنها أنها كتبت بقلمها مناقشات انتقدت فيها الأخفش النحوي المشهور، كما أن لها تعليقات على شروح المنتهى والإقناع وحواشي الشيخ منصور في فقه الحنابلة. كما أنها أكملت شرح صحيح مسلم ونسخت بخط يدها مجموعَ الشيخ أحمد بن منقور كما يروي صاحب كتاب "الحركة العلمية بين نجد والزبير خلال ثلاثة قرون". طبعت دار النوادر لها في عام ٢٠٠٧ "مختصر الغالب من متن دليل الطالب" وينسب إليها شرح"الروض المربع"، لكن هذه النسخة مفقودة حيث يذكر البسام صاحب علماء نجد أنه شاهد نسخة كاملة ملئت حواشيها بالفوائد والتعليقات بقلم متوسط الحُسن مضبوط القواعد بقلم الشيخة فاطمة الفضيلية الزبيرية، وقد شاهد البسام النسخة في مكتبة جامع عنيزةكما نسخت الفقيهة العالمة فاطمة الفضيلية القرآن الكريم وهذه النسخة محفوظة في مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة في مدينة الرياض.

لم يقتصر دور الفضيلية على التدريس والتأليف وحسب، فقد كانت مؤثرة في أوساط النساء خصوصا في بلدتها الزبير، فقد تتلمذ على يدها جَمْعٌ من نساء المشيخة وصارت قدوة لهن في هذا المجال. وقد تتلمذ على الفضيلية كلٌّ من عائشة بنت راشد والتي لها تعليق على شرح النووي لصحيح مسلم، وشريفة الوطبان التي تحفظ ديوان المتنبي ولها تميز في الأدب. ومن تلميذات الفضيلية في الزبير شاهة بنت سليمان الفواز والتي شرحت الأربعين النووية، ومنهن مؤسسة مسجد سوق الجت في الزبير فاطمة البسام. 

وَقَفتْ رحمها الله جميعَ كتبها على طلبة العلم من الحنابلة وجعلت الناظر عليها شيخها محمد بن حمد الهديبي فكانت المكتبة عنده إلى حين قرر أن يسكن المدينة المنورة فتورع عن إخراجها وجعلها عند خادمة الفضيلية، ولما قررت الخادمة سكنى المدينة ضاعت المكتبة والكتب التي فيها ولم يبق منها سوى نزر يسير عند الشيخ ابن حميد صاحب السحب.
توفيت رحمها الله في مكة سنة ١٢٤٧ هـ ودفنت في المعلاة في شعبة النور وقبرها لصيق بقبر الشيخ محمد بن صالح الريس كما أوصت. 

التصوف ورؤيا الفضيلية للنبي صلى الله عليه وسلم
كانت فاطمة الفضيلية على الطريقة النقشبندية والقادرية، وكانت لها أوراد وأحزاب ومشرب رَوِيّ في التصوف حيث يقول عنها ابن حميد في السحب الوابلة: "... وكان لها شهرة عظيمة ولم نسمع في هذا العصر ولا فيما قبله بإعصار مثلها ولا من يدانيها في علمها وصلاحها وزهدها وورعها وجمعها للفضائل." وقد اشتهرت رؤيا رأتْها الفضيلية رحمها الله حتى أن صدى رؤياها وصلت المغرب الإسلامي وغيره من البلدان فما هذه الرؤيا؟

تروي الكتب التي ترجمت للفقيهة الفضيلية أنها كانت تستعد للقيام والصلاة، وكانت خادمتها قد استأذنتها للذهاب لعيالها،وكانت الفضيلية قد عَمِيَتْ في هذه الفترة من حياتها. فبعد ذهاب الخادمة قامت الشيخة الفضيلية للوضوء والاستعداد للصلاة والتهجد فزلقت رجلها فسقطت وانكسر ضلعان من أضلاعها فعصبتهما وصلّت راتبها بغاية التكلف ثم غفت. 
فزارها النبي صلى الله عليه وسلم في منامها ومعه أبوبكر وعمر رضي الله عنهما مقبلين من ناحية الكعبة، فأخذ النبي- صلى الله عليه وسلم- من ريقه الشريف بطرف ردائه وقال امسحي على عينيك فمسحتها فأبصرت في الحال. ثم مسحت على الكسر فبرأ فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا فاطمة من غير استئذان؟ فقلتُ: يا سيدي يا رسول الله إن الحدث الأصغر يندرج في الأكبر وأنت قد أذنت في البصر وهو أعظم، فتبسم عليه الصلاة والسلام وقال: عمر عبد رب الرسول ومحمد بن صالح الريس في مكانهما كأبي بكر وعمر في زمانهما وفلان وفلان عند الناس من العلماء، هما عند الله من الفساق!
سارت الركبان بهذه الرؤية حتى أن علماء الشام والمغرب كاتبوا الفضيلية بأن تكتب لهم هذه الواقعة بخطها ففعلت وقد شاهد ابن حميد كما يروي هذه المراسلات وفيها بحسب وصفه "... من الرموز إلى أسرار الصوفية ما لا يعرفه إلا من له أعلى كعب فيه..." ومن ورعها رحمها الله أنّها ماتت ولم تخبر ولم تفصح عن أسماء مَن ذمّهم النبي عليه الصلاة والسلام.
رحم الله فاطمة الفضيلية وغفر لها، المقال يحاول تسليط الضوء-كما ذكرنا في البداية- على جانب من التاريخ المسكوت عنه أو التاريخ الهامشي في تاريخ الخليج والجزيرة العربية، ولعل بعض الباحثين يكملون على هذا المنوال فيعيدون قراءة التاريخ بشكل مجهري يُجيب على بعض التساؤلات التي لم تُطرق بعد فيكون لهم التميز على أقرانهم ويتمردون بذلك على التاريخ السائد السياسي والفردي بشكل خاص. العالمة الفضيلية تمثل هذا الجزء المسكوت عنه وإعادة قراءة تاريخ أمثالها بتعمق أكبر يفتح للمؤرخ أبواباً قد أوصدتها يد الإهمال وربما اتجرأ وأقول الكسل المعرفي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...