الأحد، 1 أبريل 2018

هل تاريخنا ناصع البياض؟ا

الجلوس مع المهتمين بالشأن التاريخي متعة ، فهم يختصرون في الكثير من الأحيان عليك شراء بعض الكتب من خلال تلخيصهم لمحتواها ويكون بإمكانك اتخاذ قرار تجاه شراء هذه الكتب. المهتمين بالتاريخ من جميع شرائحهم ، الأكاديمي ، القارئ ، صاحب المكتبة الضخمة وأيضا المحب للتاريخ كلهم لهم اسهامات بطريقة أو بأخرى على نظرتك للتاريخ. هذه العقول تجعلك تفكر في طريقة استخلاصها للنتائج ، سواء كانت سلبية أم ايجابية، ويقودك تفكيرك في بعض الأحيان إلى فكرة تخرجك عن اطار المألوف في التفكير التاريخي في مجتمع وربما تكون هذه الفكره سبيلك للتميز على أقرانك.


هل التاريخ ناصع البياض؟ بلا شك لا التاريخ هو حياة الناس في الماضي ولا يوجد مدينة فاضلة ولا حياة يوتوبيا لا شر فيها  بل كان هناك الصالح والطالح والخير والشر والخطأ والصواب. القارئ للتاريخ قراءة دون تمحيص ولا تدقيق ولا بحث عن الحقيقة سيجد التاريخ كما كان يتصوره قبل القراءة فما بالك بمن يقرأ بعين ايدولوجيه أو دينية؟ التاريخ ليس كتابا مقدسا نزل من عند الله فلا أخذ فيه ولا رد عند المؤمنين بهذا الكتاب. التاريخ وصل الينا من طرق عديدة ووجهات نظر متعدده وآثار مختلفه وقد يكون كتب بطريقة ملائكية من محب وبحروف شيطانية من كاره. 

تاريخ الأمم هو أشد هذه التواريخ خطورة ووعوره ثم يأتي بعد ذلك تاريخ الدول القطرية اليوم وامتدادها الإمبرطوري في السابق. مثال يوضح المقال ، عندما نناقش المسلم في تاريخه خصوصا ما بعد عصر النبوه تجد ، في الكثير من الأحيان، سرد لتاريخ ملائكي لا أخطاء فيه وكأنه تاريخ نزل من عند الله! ولذا عندما يبدأ النقاش بين صاحب هذه النظره وآخر يعارضه تتضح معالم عدم نصوع هذا التاريخ. أشرح هذه الفكره بطريقة أخرى تاريخنا الإسلامي يضم تاريخ ملل ونحل وطوائف محسوبة اليوم ضمن إطار الإسلام مثل السنة والشيعة وهاتان الطائفتان أوضح مثال ونجد غيرها من الملل والنحل التي ألف عنها علماء الإسلام ذاتهم كتبا ينتقدونهم فيها، هذا على الجانب الفكري. أما على الجانب العسكري وتأسيس الممالك والدول فالتاريخ يختلف باختلاف الراوي ومكان وجوده يوم وقوع هذه الحوادث وانتمائه الفكري أيضا. 

من أمثلة اختلاف وربما اختلاق الروايات هو ما رواه ابن خلكان في كتاب وفيات الأعيان أنه لما اقترب جيش الأسبان من الجيش الإسلامي، ألقى طارق بن زياد خطبته التي قال في أولها «أيها الناس  أين المفرُّ؟! والبحر من ورائكم والعدوُّ أمامكم، فليس لكم والله إلاَّ الصدق والصبر». حلل الكثير من المؤرخين هذه الرواية بقولهم كيف لطارق وهو رجل أمازيغي أن يخطب ببلاغة وجيشه في غالبه أمازيغ ربما لا يجيدون اللغة العربية! هل يعقل هذا؟ قد يلوم البعض ابن خلكان على ذكره للحادثه وهذا ممكن لكن الأصح أن يلام من أتى بعد ابن خلكان وغيره ، متخصصا كان أم قارئا، خصوصا في عصرنا هذا حيث من السهل الحصول على المعلومه والمقارنه والتحليل. وليست هذه الحادثة الوحيده ولكن هناك حوادث أخرى كثيره في تاريخنا الإسلامي ينظر لها الكثيرون أنها بطولة وقد تكون من وجهة نظر الآخرين خيانه! 

هل هذا فقط في التاريخ الإسلامي أو تاريخ الأمم بشكل عام؟ بلا شك لا ونحن هنا لا نتكلم عن المبالغات في الوصف لكننا نتكلم عن كتابة تاريخ بلا أخطاء أو عيوب ، كتابة تاريخ السرد فيه يشعرك بأن أهل ذاك الزمان نزلوا من الجنه بأخلاق عالية وأن المجتمع لم يكن فيه سوى الأقوياء الشرفاء العقلاء وأعداؤهم حمقى جبناء عديمي الشرف. في تاريخ الخليج والكويت الذي ادرسه نجد ذلك واضحا في المؤلفات التي كتبت منذ تأسيس الدول القطرية إلى اليوم فلم نجد تاريخ اللصوص في الكويت مثلا أو تاريخ الحمقى والمغفلين في السعودية ولا تاريخ الكسالى في الإمارات أو تاريخ العقوق في عمان ولا تاريخ الفقر في قطر! عندما تتصفح كتب التواريخ الخليجية تجد الكثير من البياض وكأن مجتمعاتنا كانت مجتمعات مثالية ولم يكن يعيش بيننا اللصوص ولا العاهرات ولا الكذابين ولا حتى أهل النفاق. 

تظهر جليا إشكالية التاريخ الناصع عند الإختلاف السياسي المعاصر ، فخذ على سبيل المثال مهاجمة الدولة العثمانية من قبل كارهي تركيا الحالية ومهاجمي الدولة السعودية الأولى من قبل كارهي دول الخليج. لا يقف التطرف في الاستشهاد  عند هذا الحد بل يصل إلى الفكر الذي كان ناصعا قبل الخلافات فالدواعش هم نتاج الدولة السعودية الأولى والتصوف والعلمانية هم نتاج الدولة العثمانية! وهنا ننتقل بفعل الهوى من تاريخ ناصع البياض إلى تاريخ شديد السواد مع امكانية تبييضه مستقبلا.

ما الحل وكيف يمكننا تجاوز هذه المعضله؟ الحل بيد المؤرخين ، هنا علي تعريف المؤرخ، لأن كثره حملة الدكتوراه في التاريخ جعل الناس يظنون أن كل حامل للدكتوراه هو مؤرخ أو عالم تاريخ! المؤرخ الباحث كما يعرفه الدكتور عماد عبدالسلام "فهو قاضٍ يقف خارج الحدث بمسافة زمنية تقيه من مغبة التحيز إلى أيٍّ من أطراف الحدث، وهو كالقاضي عليه أن يترجل عن منصة القضاء إن وجد نفسه، أو وجده الناس، متحيزًا غير منزهٍ في متابعة القضية المطروحة أمامه، وعلى خلاف ما أبيح للشاهد، فإن القاضي، أو الباحث هنا، باحث عن الحقيقة؛ فهو الذي عليه أن يطالب بالحيدة والنزاهة والصدق.. إلى غير ذلك من صفات القضاة الحميدة، إنه يستقصي شهادات الشهود، أصحاب الروايات المعروضة أمامه، يقارن بينها، ويتأمل جزئياتها ببرودة أعصاب، ليتوصل إلى الحقيقة، فلا يختلف عمله هنا عن عمل القاضي إلا بفارق واحد، وهو أنه يتعامل مع شهادات مات أصحابها، فلم يعد ممكنًا مراجعتهم فيما شهدوا به، ولكنه مع ذلك قادر على أن يتفحصها، ويتعرف على ما هو صحيح أو أقرب إلى الصحة منها، أو نبذها أحيانًا، إن اتبع في ذلك قواعد علم التاريخ، أو ما سُمِّي منهج البحث التاريخي، وهو مثل القاضي، يستطيع أن يفتح ملف أي قضية تاريخية، إذا توفَّر له من الوثائق والمصادر الجديدة ما من شأنه أن يغير نتائج الأحكام، أو القناعات السابقة".

إذا المؤرخ قاض وقاضيان في النار وقاض في الجنه! فما بالكم بمن يكتب التاريخ على هواه. للتخلص من معضلة التاريخ الناصع البياض علينا أولا أن نصدق بأن التاريخ ليس ناصع البياض ! كما أن علينا عدم انتقاء النصوص التاريخية التي توصلنا فقط لمرادنا بل على المؤرخ اتباع المنهجية العلمية الصحيحة للوصول إلى أقرب صوره لما كان عليه التاريخ في زمن البحث. النقطه الثانية نشر ثقافة النقد وتقبل الرأي الآخر إذا وجد الدليل فوجود لص في عائلة ما لا يعني أن كل العائلة لصوص! ووجود كذاب في طائفة ما لا يعني أن المؤمنين بهذه الأفكار كلهم كذابون، ووجود عاهره في مدينة لا يعني أن أهلها أهل زنا وخنا. العدل والانصاف جزء رئيسي من عمل المؤرخ لأن الانصاف عزيز كما يقال ولذا فذكر المحاسن بالدليل عليه أن يقابل بذكر العيوب بالدليل أيضا. فثقافة النقد خصوصا التاريخي يجب علينا نشرها في مجتمعاتنا الثقافية والتاريخية حتى يتقبل الناس النقد المرتبط بالدليل أو التحليل المبني على أسس علمية.

 الاعتقاد بأن التاريخ ناصع البياض هو قراءة مثالية للتاريخ تحميل في طياتها حتميه مسبقة لحركة التاريخ وبالتالي تصبح مثل هذه القراءة قراءة جبريه آليه تنفي الفعل الإنساني لصالح روح الشعب أو تتغاضى عن شكل العلاقات الإجتماعية والإنسانية الذي يؤدي إلى نوع من العمى في التحليل التاريخي. إن الإعتقادات المسبقة المغلقة في التحليل التاريخي تؤدي إلى زوال التاريخ نفسه ، فالمؤرخ الذي يتبنى نظرية العقل المتعالي(انظر هيجل وكانت) أو ربما المادية التاريخية الماركسية قد يؤدي به التحليل وأقوم قد إلى دعم انظمة شموليه دكتاتوريه حركتها النظرة المثالية لتحليل التاريخ مثل الحركات النازية والفاشية والشيوعية وغيرها. القراءة المثالية أو التخديريه للتاريخ كما يسميها مالك بن نبي والذي وجد في تاريخنا الإسلامي هو نوع من أنواع التخدير الذي يعزل الفكر والضمير عن الشعور بعظم المصاب لفتره مؤقته لكن هذا العزل يشفي مؤقتا حتى يصحو المعزول من سكرته.

  علينا إن أردنا فهم تاريخنا أو التواريخ الأخرى بشكل أعمق ايقاف نظام "الفزعة التاريخية" لأن التحليل التاريخي ليس ساحة معركة فلا حاجة لنا بالزير سالم والحارث بن عباد ولانحتاج لهتلر وموسيليني، بل نحتاج لمن يكتب بالحجة ويحاول الوصول للتحليل الدقيق قدر استطاعته معتمدا على منهج واضح، وفي مقابله نريد من يقارع الحجة بالحجة دون انتقائية ولا مزاجية وبكل تأكيد دون هرطقه!

شوارد:

"وقائع التاريخ الكبرى عائمات جليد ، طرفها ظاهر فوق الماء وكتلتها الرئيسية تحت سطحه و من يريد استكشافها عليه أن يغوص"

محمد حسنين هيكل













ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مشاركة مميزة

إلى لقاءٍ يا فهد

    الموت هو ذلك الزائر الذي لا يقوى عليه أحد من البشر! ، يأتي للمستبد المتجبر فيسلب منه روحه دون مقاومة أو حرب! وهو ذاته الذي يز...