في هذا المقال أحاول تسليط الضوء بشكل مبسط على علاقة الكتل السياسية الكويتية بالمجتمع كيف أن هذه الكتل على اختلاف انتماءاتها الأيدولوجية والفكرية والعرقية تحاول كسب الشارع السياسي الكويتي لصفها من خلال شعارات رنانة تدرك هذه القوى أنها غير قادرة على تحقيقها. هذه الوسيلة لم تكن حديثة بل لها امتداد في التاريخ المحلي منذ عام ١٩٣٨، من هنا يكون تركيز المقال على ٤ أحداث رئيسية هي المجلس التشريعي ١٩٣٨ ومجلس الأمة ١٩٨٥ ومجلس الأمة ٢٠١٢ وأخيرا مجلس الأمة ٢٠٢٠.
النظام السياسي في الكويت تصفه المصادر التاريخية على أنه نظام قائم على الشورى الإسلامية – مع التحفظ على هذا الوصف- لكنه نظام كان مستقرا من الناحية السياسية عن طريق انتقال السلطة من الأب إلى الابن حتى عهد صباح الثاني حيث توزعت السلطات على أبنائه الأربعة وعبدالله ومحمد وجراح و مبارك حتى أتى عام ١٨٩٦حيث كانت هناك فترة انتقالية في تاريخ الحكم في الكويت بطريقة دموية فكانت المرة الأولى التي ينتقل فيها الحكم للحاكم عن طريق القتل عندما قام الشيخ مبارك بن صباح وابناؤه بقتل الشيخين محمد وجراح الصباح والاستيلاء على السلطة ولازالت آثار هذه المرحلة موجودة في الواقع السياسي اليوم للسلطة. الحكم الاستبدادي للشيخ مبارك كما يصفه المؤرخون كعبدالعزيز الرشيد ويوسف بن عيسى أثر كثيرا على الحياة السياسية والاجتماعية في الكويت ففترة حكمه شهدت استبدادا لا نظير له في تاريخ الكويت الحديث.
حكم مبارك بن صباح (١٨٩٦-١٩١٥) كانت بداية التحركات السياسية المعارضة للأسرة الحاكمة فالشيخ مبارك على مميزاته العديدة الاقتصادية والسياسية إلا أنه كان مستبدا في قرارته لدرجة تدخله في شؤون الناس فلأول مرة في تاريخ الكويت الحديث يتميز الحاكم على المحكوم باللباس والمركب كما ذكر الرشيد في كتابه تاريخ الكويت أن مبارك منع أهل الكويت من لباس الثوب المطرز ومنعهم من ركوب العربة التي يجرها الخيل واكتفى بذلك لنفسه ولأفراد أسرته.
وفي عام ١٩٢١ كان هناك حراك داخلي قبل مبايعة الحاكم الجديد أحمد الجابر الصباح بضرورة الزامه بالعودة لمنهج الشورى من خلال تأسيس مجلس شورى وسبب طلبهم هذا أن المصالح التجارية تأثرت كثيرا بكثرة الحروب في عهد مبارك وابنائه سالم وجابر وكذلك حصر القرار السياسي في الحاكم وقد كان الوجهاء وعلماء الدين شركاء في القرار بسبب المساهمة المالية الكبيرة منهم في ادارة شؤون الدولة ودورهم في المجتمع. فكرة حصر الصراع السياسي بين الشيوخ والتجار في تاريخ الكويت هي الفكرة النمطية الموجودة لدى الباحثين في التاريخ الكويتي وهي فكرة لا أوافق عليها وناقشتها من خلال كتابي
Kuwait's Politics Before Independence: The Role of the Balancing Powers ،
عام ١٩٣٨ كان هناك تحول وتطور في اعتراض التجار والسياسيين الكويتيين على الوضع فقد ظهر
لأول مره في تاريخ الكويت السياسي كتلة عمل منظمة سميت الكتلة الوطنية قام على تأسيسها مجموعة من التجار والوجهاء قياداتهم من الشباب كعبدالله الصقر وخالد العدساني بغرض اصلاح الوضع الاجتماعي والسياسي في الكويت واعتمدت هذه الكتلة بشكل رئيسي على الشباب الوطني المتحمس.
كان قيام هذه الكتلة اعتراضا على سوء إدارة الشيخ أحمد الجابر للبلاد من جهة ومن جهة أخرى تأثرهم بالعراق إذ حول معظم تجار الكويت تجارتهم ناحية استثمار الأراضي في البصرة ونقل الماء من شط العرب بعد الكساد الاقتصادي العالمي في مرحلة الثلاثينيات واختراع اللؤلؤ الصناعي الياباني وحصار ابن سعود الاقتصادي للكويت ، الملاحظ لأحداث ١٩٣٨ يجد أن الشباب والمجتمع تكبدوا أكبر الخسائر بعد حل المجلس التشريعي الثاني ١٩٣٩ وحتى قبله فالشباب كانوا هم الشرارة التي أشعلت الأحداث عندما قام محمد البراك بالاعتراض على منع سواق التاكسي من أخذ النساء والأطفال للتنزه خارج أسوار الكويت فتم ضربه ضربا مبرحا واهانته علانية وابعاده من الكويت إلى الهند كما تشير الوثائق البريطانية. كذلك كان للمجتمع دور في دعم الكتلة الوطنية – وهنا أنا أركز على دور المجتمع والكتل السياسية فقط- من خلال الكتابة على الجدران عبارات تحدث الحاكم على قبول شروط المجلس مثل " أخلص للأمة تخلص لك" وكذلك "حب الشعب يرفعك الشعب" وغيرها ذكرها خالد سليمان العدساني في مذكراته.
نهاية أحداث مجلس ١٩٣٨/١٩٣٩ كانت مأساوية فقد قتل محمد القطامي وهو من الشباب المؤيدين لنواب المجلس وكان المشرف على حرس الشواطئ والجمارك خلال محاولته الدفاع عن شاب آخر هو محمد المنيس الذي أُعدم وكان أول قتيل سياسي في الكويت وسبب قتل المنيس هو تصريحه بآرائه علانية ضد الحاكم وأسرته.
وعلى الرغم من أن حراك الشباب والمجتمع كان منصاعا لآراء أعضاء المجلس التشريعي إلا أن عواقب هذه الآراء كانت أكبر على المجتمع منه على السياسيين حيث أنه لم يُقتل أحد من أعضاء المجلس وهرب بعضهم للعراق وسجن آخرون ثم اطلق سراحهم، وأنا هنا لست بصدد تحليل أحداث ١٩٣٨ بل بصدد عرض العلاقة بين ما تقوم به النخب السياسية في الكويت من اشعال فتيل النزاع مع السلطة للوصول لهدف سياسي أو اقتصادي معين -في الغالب يكون أكبر من قدرتهم السياسية- وبين تضحيات الشباب الكبيرة وتبيان الخلل التاريخي المتكرر في العلاقة بين الطرفين في مراحل مختلفة من تاريخنا السياسي.
تكرر اعتماد السياسيين في مرحلة ما قبل الاستقلال على المجتمع في صراعه مع السلطة في ١٩٥٦ وغيرها من الأحداث إلا أن التأييد المجتمعي للسياسيين كان ينتهي في أحيان كثيرة لصالح السلطة ويكون تقييد الحريات أكبر. بعد الاستقلال في عام ١٩٦١ وكتابة دستور جديد للكويت بعد وثيقة ١٩٢١ ودستور ١٩٣٨/١٩٣٩ تغير شكل السياسة في الكويت إذ أن عدد الناخبين ازداد بعد أن كان حكرا على الطبقة التجارية لكن هذا الأمر لم يغير كثيرا في شكل اللعبة السياسية في الكويت واستمر تكرار ذات السلوك من الكتل السياسية في علاقتهم مع السلطة ومع المجتمع.
مجلس الأمة المنتخب في عام ١٩٨٥ شاهد آخر على استعانة الكتل السياسية ونواب البرلمان بالمجتمع في صراعهم مع السلطة، فبعد تغيير الدوائر الانتخابية إلى ٢٥ دائرة في محاولة من السلطة اضعاف النواب المنتخبين وصل العديد من نواب المعارضين من ضمنهم عبدالله النفيسي وجاسم القطامي وأحمد الخطيب ومبارك الدويلة وغيرهم. تم حل المجلس في عام ١٩٨٦ وأوقف الأمير عمل بعض مواد الدستور الكويتي وهي المادة ٥٦ و١٠٧و١٧٤ و١٨١ فإيقاف المادة ١٠٧ على سبيل المثال تعني عدم عودة انتخابات مجلس الأمة ومن هنا انطلقت تجمعات سياسية دعت لها الكتل السياسية وأعضاء مجلس الأمة عرفت ب "دواوين الأثنين" فكرة هذه التجمعات الضغط على السلطة للعودة للانتخابات واحترام الدستور لكن لم يكن لدى المعارضة تصور حقيقي ولا رغبة حقيقية كذلك في تغيير الواقع السياسي إذ أنهم كانوا يحترمون اللعبة السياسية الموجودة دون رغبة في تغييرها. لم يتم التغيير وعودة الانتخابات إلا بعد الغزو العراقي للكويت في أغسطس ١٩٩٠ أي بعد ما يقارب ال٤ سنوات من هذا الحراك من خلال مؤتمر جده والذي لم يغير من الواقع السياسي حتى اليوم.
بعد دخول وسائل التواصل الاجتماعي وتأثيرها على الحياة العامة في الكويت نجد أن الكتل السياسية صارت تستغل هذا في استقطاب المجتمع تجاهها لكن مع نجاحها في استقطاب شرائح المجتمع المختلفة لم يكن هناك تأثير حقيقي على شكل الديمقراطية الكويتية. الربيع العربي وتأثيره على الدول العربية خصوصا مصر وسوريا وليبيا وتونس كانت له انعكاساته على الواقع المحلي الكويتي فظهر حساب "كرامة وطن" والذي نادى بضرورة تغيير الواقع السياسي الكويتي من خلال تعديل الدستور ورئيس مجلس للوزراء من الشعب وليس الأسرة الحاكمة ودخل نواب مجلس الأمة في الحراك وقادوا الشارع من خلال دعوة الجماهير للتظاهر وقد استجاب عدد كبير من الشعب الكويتي لهذه الدعوات ووصلت الأعداد بين ٥٠ إلى ١٠٠ ألف متظاهر وهو رقم كبير بالنسبة لمجتمع صغير مثل الكويت. في انتخابات المجلس ٢٠١٢ حصلت الأغلبية المعارضة على مقاعد البرلمان ولكنها مع ذلك لم تتمكن من تغيير اللعبة السياسية على الرغم من الغطاء الشعبي الكبير والواقع السياسي في العالم العربي في تلك الأثناء وقد تمكنت السلطة من تغيير اللعبة السياسية في الكويت عن طريق الأحكام القضائية.
العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الكويت فيها نوع من الارتباط الأبوي والشعب بطبيعته مرتاح ماديا فليس الجوع والظلم هو من أخرجه كحال ثوار ليبيا أو سوريا أو مصر ولذا فالكثير من تكتل النواب المعارضين عارض في بداية الحراك الشعبي المصاحب للربيع العربي فكرة الإمارة الدستورية والحكومة المنتخبة والأحزاب بل استغرق الأمر منهم العامين ليصعدوا حراكهم ويطلق مسلم البراك خطاب لن نسمح لك وهو الخطاب الذي جاء بعد ابطال عضويتهم في مجلس ٢٠١٢ بيان الأغلبية فالمصلحة هي من مُست بالنسبة لهم.
ذات السيناريو تكرر بعد اعلان نتائج انتخابات ٢٠٢٠ فبعد خسارة غالبية نواب مجلس الأمة ٢٠١٦ لمقاعدهم وحصول بعضهم على عدد قليل من الأصوات خرجت المعارضة بقيادة محمد المطير وعبدالكريم الكندري وبدر الداهوم وصرحوا أن النهج القديم يجب أن يتغير وأن رئيس مجلس الأمة السابق مرزوق الغانم لن يعود رئيسا. تفاعل الشارع الكويتي وشكل جهة ضغط حتى وصل أعداد النواب المتفقين على التصويت لمرشح المعارضة لرئاسة المجلس بدر الحميدي إلى ٤٢ نائبا مما يعني أنهم الأغلبية حتى وإن صوتت الحكومة لمرزوق الغانم.
بعد هذه الاجتماعات بأيام انتخب مرزوق الغانم كرئيس للبرلمان وحاز على ٣٣ صوتا وفي المقابل لم يصوت ١٤ نائبا من كتلة المعارضة ليحصل بدر الحميدي على ٢٨ صوتا وتخسر المعارضة منصب رئيس البرلمان. نواب المعارضة هددوا رئيس الحكومة قبل انتخابات رئيس المجلس بأنهم لن يتعاونوا معه في حال صوتت الحكومة لمصلحة مرزوق الغانم من باب الضغط السياسي وعلى الرغم من تصويت الحكومة مع مرزوق الغانم لم يتجرأ أحد من هؤلاء النواب على تقديم طلب عدم التعاون، لكنهم قدموا استجواب لرئيس الحكومة وقد أيد عدد كبير من النواب الاستجواب لكن هذا لا يعني تأييدهم لعدم التعاون مع رئيس الوزراء. حتى بعد استقالة الحكومة وتشكيل الحكومة من جديد برئاسة صباح الخالد لم تتغير الأطر في الاختيار الحكومي فتم اخراج أنس الصالح لأن تعيينه سيكون مشروع أزمة مع النواب وتعيين نائب سابق وهو عبدالله الرومي من أجل التفاوض مع نواب المعارضة في تركيا حول صيغة العفو الخاص. وحتى مع إعلان استجواب رئيس الوزراء ووزير الصحة بعد إقرار الحظر الجزئي لا يمكن للنواب تغيير المشهد السياسي بدون التمرد على قواعد اللعبة! فحتى في حال حل مجلس الأمة واللجوء للانتخابات فهذا لن يغير المشهد السياسي الكويتي لأن الانتخابات ليست مفتاح التغيير.
السلطة ممثلة بالأسرة الحاكمة لديها هاجس السيطرة على الثروة والقوة فتمنع قيام قوى اجتماعية وسياسية مستقله تعبر عن واقع المجتمع الحقيقي فهي تحارب مثل هذه الجماعات بالقضايا تارة والإعلام تارة أخرى مثلما حدث مع التيار التقدمي وحزب الأمة على سبيل المثال، النخب السياسية في الكويت منذ تأسيس الدولة الحديثة ١٩٦١ لم تنجح في إقرار رؤية واحده فالتعليم والصحة والإسكان كلها قضايا تناقش في جميع مجالس الأمة والسلطة تتحكم بسير العملية السياسية من خلال التحالفات التي تعقدها كل عقد مع تيار معين فالنخب السياسية متمثلة بالنواب بالدرجة الأولى مخترقة من قبل الأسرة الحاكمة وبذلك أي تحالف بين الشباب والقوى الاجتماعية وبين هذه النخبة يؤدي إلى الوصول لمصلحة السلطة في الغالب.
يفتقد المجتمع بدوره إلى المشروع السياسي الواضح المتفق عليه فالاختلافات الطبقية والطائفية والقبلية تجعل كل شريحة من هذه الشرائح الاجتماعية ترى الاصلاح من زاوية مختلفة. الكثير من التيارات السياسية بدورها صارت تُقاد ولا تقود وأثر ذلك بشكل واضح على تركيبة الحياة السياسية في الكويت وتقييد الحريات المحدودة من خلال قوانين تم إقرارها في مجالس مجلس الأمة المتعاقبة أبرزها قانون المسيء والذي أطلق يد السلطة في معاقبة الناس على الرأي والانتقاد.
إذا رغب الحراك المجتمعي السياسي في الكويت أن يصل لدولة ديمقراطية حقيقة عليه بالعمل والتضحية من أجل أهدافه. الخطابات الرنانة والتغريدات النارية لن تغير من الواقع شيء فعلى الرغم من التفاعل الكبير من السياسيين والشارع الكويتي وترديد خطاب مسلم البراك الشهير في ٢٠١٢ "لن نسمح لك" تم تغيير النظام الانتخابي في الكويت ومطاردة نواب المعارضة وسجن آخرين ووجود بعض المعارضين اليوم في المهجر. على الجانب الآخر شهدنا تغريدات وخطابات من معارضة مجلس ٢٠٢٠ ومع ذلك خسروا معركتهم وأصبح مرزوق الغانم رئيسا. الحل بمؤتمر وطني جاد تُشكل من خلاله كتلة واحدة تفرض أجنداتها على السياسيين والسلطة وليس العكس. فالوعي السياسي قد يكون عاليا لكن الخلفية الثقافية والالتزام تأتي في المستقبل الخوف على الحراك الشبابي ليس من نفسه لكن من فرض وصاية نخبوية متعالية من قبل التيارات السياسية كما يحدث حاليا وتستغل ذلك السلطة لمصالحها حتى صرنا اليوم نرى أصواتا تطالب بالحكم الفردي المطلق من أبناء الشعب الكويتي والدعوات للعودة للإمارة بدل الاستمرار وتطوير النظام السياسي الحالي للدولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق